وأمّا الوجه الثاني : فتفسير (يعزب) : «يبين ويذهب» لا يعرف ، وإنّما المعروف في (عزب) ما تقدّم نعم ، قال الصّغاني (١) في (العباب) «قال أبو سعيد الضرير : يقال : ليس لفلان امرأة تعز به أي : تذهب عزبته بالنّكاح ، مثل قولك : تمرّضه أي : تقوم عليه في مرضه». ثمّ قال الصّغاني : «والتّركيب يدلّ على تباعد وتنحّ» فتفسيره بالظّهور بعيد ، ولئن سلّمناه فلأيّ شيء جمع بين الظّهور والذّهاب ، وكأنّه قصد بذلك أنّ علم الغيب مكتوم ، فما يظهر منه ويذهب إلّا في كتاب مبين ، وهذا المعنى قريب من كلام وقع للزّمخشري في سورة سبأ لمّا وجّه القراءة المشهورة بالرّفع على الابتداء أشار إلى قراءة شاذّة بالفتح على نفي الجنس كقولك : «لا حول ولا قوة إلّا بالله» ، بالرّفع والنّصب ، وهو كلام منقطع عمّا قبله. قال (٢) الزمخشري : «فإن قلت : هل يصحّ عطف المرفوع على مثقال ذرّة كأنّه قيل : لا يعزب عنه مثقال ذرّة وأصغر وأكبر ، وزيادة (لا) لتأكيد النّفي ، وعطف المفتوح على ذرّة بأنّه فتح في موضع الجرّ لامتناع الصّرف ، كأنّه قيل : لا يعزب عنه مثقال ذرّة ولا مثقال أصغر من ذلك ولا أكبر. قلت : يأبى ذلك حرف الاستثناء ، إلّا إذا جعلت الضمير في (عنه) للغيب وجعلت الغيب اسما للخفيّات قبل أن تكتب في اللّوح لأنّ إثباتها في اللوح نوع من البروز عن الحجاب على معنى أنّه لا ينفصل عن الغيب شيء ولا يزول عنه إلّا مسطورا في اللّوح» انتهى. ويمكن أن يجيء مثله هنا على تقدير حذف مضاف.
ولقائل أن يقول : ما المانع من الاتّصال وجعل الاستثناء من (ولا أصغر ولا أكبر) مع العطف على اللّفظ أو المحل فإن قيل : المانع ما سبق ، قلنا فقد وقع التصريح بالعطف مع الاستثناء في قوله تعالى : (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [الأنعام : ٥٩] ، فإنّ القراءة عند السّبعة بجرّ حبّة ورطب ويابس ، وقد قال (٣) الزمخشري : («ولا حبة ولا رطب ولا يابس :) عطف على ورقة ، وداخل في حكمها ، كأنّه قيل : وما يسقط من شيء من هذه الأشياء إلّا يعلمه. وقوله : (إلّا في كتاب مبين) كالتكرير لقوله (إلّا يعلمها) ، لأنّ معنى (إلا يعلمها) ومعنى (إلّا في كتاب مبين) واحد ، والكتاب
__________________
(١) الصغاني : هو الحسن بن محمد بن الحسن بن حيدر بن علي العدوي العمريّ ، أبو الفضائل الصغاني ويقال الصاغاني ، من تضانيفه : مجمع البحرين في اللغة ، والتكملة على الصحاح ، والعباب ، والشوارد في اللغات وغيرها. (ت ٦٠٥ ه). ترجمته في بغية الوعاة (١ / ٥٢٠).
(٢) انظر الكشاف (٣ / ٢٧٩).
(٣) انظر الكشاف (٢ / ٢٤).