أحدها : للإمام أبي عليّ الفارسيّ ـ رحمه الله ـ زعم أن الأصل : كأنّ الدّنيا لم تكن والآخرة لم تزل ، ثمّ جيء بالكاف حرفا لمجرّد الخطاب ، لا موضع لها من الإعراب ، كما أنّها مع اسم الإشارة كذلك ، وكذلك هي في قولهم «أبصرك زيدا» أي : أبصر زيدا ، والكاف حرف لا مفعول لأنّ (أبصر) إنّما يتعدّى إلى واحد. وجيء بالباء زائدة في اسم كأنّ ، كما زيدت في أصل المبتدأ في قولهم : «بحسبك درهم» ، وقولهم : «خرجت فإذا بزيد».
وهذا القول اشتمل على أمرين مخالفين للظاهر ، وهما إخراج الكاف عن الاسميّة إلى الحرفيّة ، وإخراج الباء عن التّعدية إلى الزّيادة.
والقول الثاني : لأبي الحسن بن عصفور ـ وهو قول أفقه من قول الفارسيّ ـ : زعم أنّ الكاف حرف خطاب اتّصلت ب (كأنّ) فأبطلت إعمالها ، وأزالت اختصاصها ، ولهذا دخلت على الجملة الفعليّة. وباء (بالدّنيا) و (بالآخرة) زائدة ، كما زيدت في المبتدأ الذي لم تدخل عليه (كأنّ) ، وقد مثّلناه. والذي حمله على زعمه زوال إعمالها ، أنّه لم يثبت زيادة الباء في اسم (كأنّ) ، وثبتت زيادتها في المبتدأ. وقد اشتمل قوله على أربعة أمور :
منها : الأمران اللذان استلزمهما قول الفارسي ، وقد شرحناهما.
ومنها : دعواه إلغاء (كأنّ). ولم يثبت ذلك إلّا إذا اقترنت ب (ما) الزائدة ، كما في قوله تعالى : (كَأَنَّما يُساقُونَ) [الأنفال : ٦] ، ودعواه أنّ الياء حرف تكلّم كما أنّ الكاف حرف خطاب ، وهو لم يصرّح بهذا ولكنّه يلزمه لأنّه لا يمكنه أن يدّعي أنّه اسمها ، لأنّه قد ادّعى إلغاءها. ولا يمكنه أن يدّعي أنّه مبتدأ لأمرين :
أحدهما : أنّ الياء ليست من ضمائر الرفع وإنّما هي من ضمائر النصب والجرّ ، كما في قولك : أكرمني غلامي.
والثاني : أنها لو كانت مبتدأ لكان ما بعدها خبرا ، ولو قيل مكان «كأنّي بك تفعل» : أنا تفعل ، لم ترتبط الجملة بالضمير ، وقد استقرّ أنّ الجملة المخبر بها لا بدّ لها من رابط يربطها.
ومنها : أنّه صرّح بأنّها قد دخلت على الجملة الفعلية في قولهم : «كأنّي بك تفعل». فلا يخلو : إمّا أن يدّعي أنّ الباء في بك زائدة والكاف مبتدأ والأصل «أنت تفعل» فلمّا دخلت الباء على الضمير المرفوع ، انقلبت ضمير جرّ ، أو يدّعي أنّ الباء متعلّقة ب (تفعل). فإن ادّعى الأوّل فالجملة اسميّة لا فعلية. وبطل قوله : إنّها دخلت