نعم ؛ إن أردت بالفعل المفعول الذي ليس هو الحدث ، بل المفعول به كان مجازا ، وحينئذ يصحّ فيه أن يكون مفعولا به ، وفيه تجوّز أيضا من جهة أنّ حقيقة المفعول هو الصادر عن الفاعل ، وحقيقة المفعول به هو ما وقع عليه فعل الفاعل على ما تقدّم عن اصطلاح متأخّري النحاة ، وهما متغايران كما قدّمنا.
الثامن : إذا قلت (عمل محرابا) : فإن أسندت الفعل إلى الله تعالى صحّ ، وانتصب (محرابا) على أنّه مفعول به ، وهو أيضا مفعول ، ومنه قوله تعالى : (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا) [يس : ٧١] وقد بيّنا وجه ذلك فيما سبق ، وإن أسندته إلى غير الله فقلت : عمل النجار محرابا ، لم يكن المحراب مفعولا نفسه لما قدّمنا أنّ عمل العباد لا يتجاوزهم ، ولأنّ مادة المحراب ليست معمولة للعباد ، وهي جزء المحراب ، فأولى أن لا يكون الكلّ معمولا لهم. وفي جعله مفعولا به تفصيل وهو أنّك إن جعلت (عمل) مجازا عن (نجر) كان إعماله في (محرابا) حقيقة على أنّه مفعول به لقولك نجرت محرابا ، فإنّ النّجر واقع على المحراب وقوع الضرب على زيد ، وكان المجاز في لفظ (عمل) ليس إلّا ، وإن جعلت (عمل) على حقيقته ، فإن جعلته على حذف مضاف كما سبق ، فالتقدير : عمل تصوير محراب ، فالتصوير مصدر ، فإذا حذف وأقيم المحراب مقامه أعرب مفعولا به على المجاز ، وإن قدّرته : عملت صنعة محراب ، على أن تكون الصورة الحاصلة في المحراب معمولة بخلاف ما قلناه فيما سبق ، كان كذلك أيضا ؛ وإن جعلت المحراب معمولا باعتبار أنّه محلّ العمل إطلاقا لاسم المحلّ على الحال لزم المجاز أيضا ، فالمجاز لازم على كلّ تقدير ، ولا شكّ في جواز الإطلاق ، قال تعالى : (لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ) [يس : ٣٥].
التاسع : بان بهذا أنّ قوله : (اعْمَلُوا صالِحاً) إنّما ينتصب (صالحا) فيه على غير المفعول به ، ولا يجوز انتصابه على المفعول به إلّا بمجازين :
أحدهما : إطلاق الصالح على المفعول الذي ليس عملا.
والثاني : إضافة العمل إليه ، وشيء ثالث وهو حذف الموصوف من غير دليل ، بخلاف ما إذا قدّرنا (عملا) الذي هو المصدر ، فإنّ الفعل يدلّ عليه. وكلّ واحد من هذه الثلاثة لا يصار إليه من غير ضرورة ، ولا ضرورة في جعله مفعولا به ، فكيف يصار إليه وفيه هذه المحذورات الثلاثة.
العاشر : ظهر بهذا وجه التقدير في قوله تعالى : (أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ) [سبأ : ١١] ، وقوله تعالى : (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ) [سبأ : ١٣]. وأمّا قوله تعالى : (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) [سبأ : ١٣] ، فانتصاب شكرا على أنّه مفعول