ذلك هو من خشية الله تعالى ، من طواعيته وانقياده لما أراد الله تعالى منه ، فكنى بالخشية عن الطواعية والانقياد ، لأن من خشي أطاع وانقاد.
(وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) : هذا فيه وعيد ، وذلك أنه لما قال : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) ، أفهم أنه ينشأ عن قسوة القلوب أفعال فاسدة وأعمال قبيحة ، من مخالفة الله تعالى ، ومعاندة رسله ، فأعقب ذلك بتهديدهم بأن الله تعالى ليس بغافل عن أعمالهم ، بل هو تعالى يحصيها عليهم ، وإذا لم يغفل عنها كان مجازيا عليها. والغفلة إن أريد بها السهو ، فالسهو لا يجوز على الله تعالى ، وإن أريد بها الترك عن عمد ، فذكروا أنه مما يجوز أن يوصف الله تعالى به. وعلى كلا التقديرين ، فنفى الله تعالى الغفلة عنه. وانتفاء الشيء عن الشيء قد يكون لكونه لا يمكن منه عقلا ، ولكونه لا يقع منه مع إمكانه. وقد ذهب القاضي إلى أنه لا يصح أن يوصف الله تعالى بأنه ليس بغافل ، قال : لأنه يوهم جواز الغفلة عليه ، وليس الأمر كما ذهب إليه ، لأن نفي الشيء عن الشيء لا يستلزم إمكانه. ألا ترى إلى قوله تعالى : (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) (١)؟ وقوله : (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) (٢) ، فقد نفى عنه تعالى ما لا يستلزم إمكانه له. وبغافل : في موضع نصب ، على أن تكون ما حجازية. ويجوز أن تكون في موضع رفع ، على أن تكون ما تميمية ، فدخلت الباء في خبر المبتدأ ، وسوّغ ذلك النفي. ألا ترى أنها لا تدخل في الموجب؟ لا تقول : زيد بقائم ، ولا : ما زيد إلا بقائم. قال ابن عطية : وبغافل في موضع نصب خبر ما ، لأنها الحجازية ، يقوي ذلك دخول الباء في الخبر ، وإن كانت الباء قد تجيء شاذة مع التميمية. انتهى كلامه. وهذا الذي ذهب إليه أبو محمد بن عطية ، من أن الباء مع التميمية قد تجيء شاذة ، لم يذهب إليه نحوي فيما علمناه ، بل القائلون قائلان ، قائل : بأن التميمية لا تدخل الباء في خبر المبتدأ بعدها ، وهو مذهب أبي علي الفارسي في أحد قوليه ، وتبعه الزمخشري. وقائل : بأنه يجوز أن يجر بالباء ، وهو الصحيح. وقال الفرزدق :
لعمرك ما معن بتارك حقه
وأشعار بني تميم تتضمن جر الخبر بالباء كثيرا. وقرأ الجمهور : تعملون بالتاء ، وهو الجاري على نسق قوله : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ). وقرأ ابن كثير بالياء ، فيحتمل أن يكون الخطاب مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ويحتمل أن يكون الخطاب مع بني إسرائيل ، ويكون ذلك
__________________
(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٥٥.
(٢) سورة الأنعام : ٦ / ١٤.