وما : ظرفية مصدرية أي مدة تسخيركن لنا. والفاعل يسخر مضمر يفسره المعنى وسياق الكلام ، إذ معلوم أن مسخرهن هو الله تعالى. وقول الزمخشري : وكأنه جاء بما دون من ، تحقيرا لهم وتصغيرا لشأنهم ، ليست ما هنا مختصة بمن يعقل ، فتقول عبر عنهم بما التي لما لا يعقل تحقيرا لهم ، وإنما هي عامة لمن يعقل ولما لا يعقل. ومعنى قانتون : قائمون بالشهادة ، قاله الحسن ، أو في القيامة للعرض ، قاله الربيع ، أو مطيعون ، قاله قتادة ؛ أو مقرّون بالعبودية ، قاله عكرمة. وقيل : قائمون بالله. وأورد على من يقول القنوت : القيام لله بالشهادة والعبودية ، أنه : كيف عم بهذا القول وكثير ليس بمطيع؟ وأجيب : أن ظاهره العموم ، والمعنى الخصوص ، أي أهل كل طاعة له قانتون ، وبأن الكفار يسجد ضلالهم ، وبظهور أثر الصنعة فيه ، وجرى أحكام الله عليه ، وذلك دليل على تذلله لله تعالى ، ذكره ابن الأنباري.
و (كُلٌّ لَهُ) : مرفوع بالابتداء ، والمضاف إليه محذوف ، وهو عبارة عن من في السموات والأرض ، أي كل من في السموات والأرض ، وهو المحكوم عليهم بالملكية. قال الزمخشري : ويجوز أن يكون كل من جعلوه لله ولدا ، وهذا بعيد جدا ، لأن المجعول لله ولدا لم يجر ذكره ، ولأن الخبر يشترك فيه المجعول ولدا وغيره. و (قانِتُونَ) : خبر عن كل ، وجمع حملا على المعنى. وكلّ ، إذا حذف ما تضاف إليه ، جاز فيها مراعاة المعنى فتجمع ، ومراعاة اللفظ فتفرد. وإنما حسنت مراعاة الجمع هنا ، لأنها فاصلة رأس آية ، ولأن الأكثر في لسانهم أنه إذا قطعت عن الإضافة كان مراعاة المعنى أكثر وأحسن. قال تعالى : (وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ) (١) ، (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) (٢) ، و (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (٣). وقد جاء إفراد الخبر كقوله : (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) (٤) ، وسيأتي إن شاء الله تعالى هناك ذكر محسن إفراد الخبر.
(بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : لما ذكر أنه مالك لجميع من في السموات والأرض ، وأنهم كلّ قانتون له ، وهم المظروف للسموات والأرض ، ذكر الظرفين وخصهما بالبداعة ، لأنهما أعظم ما نشاهده من المخلوقات. وارتفاع بديع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، وهو من باب الصفة المشبهة باسم الفاعل. فالمجرور مشبه بالمفعول ، وأصله الأول بديع سمواته ، ثم شبه الوصف فأضمر فيه ، فنصب السموات ، ثم جر من نصب. وفيه أيضا ضمير يعود
__________________
(١) سورة الأنفال : ٨ / ٥٤.
(٢) سورة النمل : ٢٧ / ٨٧.
(٣) سورة الأنبياء : ٢١ / ٣٣.
(٤) سورة الإسراء : ١٧ / ٨٤.