في التّشريع فلا تدخل فيه الشورى لأنّ شأن الاجتهاد أن يستند إلى الأدلّة لا للآراء ، والمجتهد لا يستشير غيره إلّا عند القضاء باجتهاده. كما فعل عمر وعثمان.
فتعيّن أنّ المشاورة المأمور بها هنا هي المشاورة في شئون الأمّة ومصالحها ، وقد أمر الله بها هنا ومدحها في ذكر الأنصار في قوله تعالى : (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) [الشورى : ٣٨] واشترطها في أمر العائلة فقال : (فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) [البقرة : ٢٣٣]. فشرع بهاته الآيات المشاورة في مراتب المصالح كلّها : وهي مصالح العائلة ومصالح القبيلة أو البلد ، ومصالح الأمّة.
واختلف العلماء في مدلول قوله : (وَشاوِرْهُمْ) هل هو للوجوب أو للندب ، وهل هو خاصّ بالرسول ـ عليه الصلاة السّلام ـ ، أو عامّ له ولولاة أمور الأمّة كلّهم.
فذهب المالكية إلى الوجوب والعموم ، قال ابن خويزمنداد : واجب على الولاة المشاورة ، فيشاورون العلماء فيما يشكل من أمور الدّين ، ويشاورون وجوه الجيش فيما يتعلّق بالحرب ، ويشاورون وجوه النّاس فيما يتعلّق بمصالحهم ويشاورون وجوه الكتّاب والعمّال والوزراء فيما يتعلّق بمصالح البلاد وعمارتها. وأشار ابن العربي إلى وجوبها بأنّها سبب للصّواب فقال : والشورى مسبار العقل وسبب الصّواب. يشير إلى أنّنا مأمورون بتحرّي الصّواب في مصالح الأمّة ، وما يتوقّف عليه الواجب فهو واجب. وقال ابن عطية : الشورى من قواعد الشّريعة وعزائم الأحكام ، ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب ، وهذا ما لا اختلاف فيه. واعتراض عليه ابن عرفة قوله : فعزله واجب ولم يعترض كونها واجبة ، إلّا أنّ ابن عطية ذكر ذلك جازما به وابن عرفة اعترضه بالقياس على قول علماء الكلام بعدم عزل الأمير إذا ظهر فسقه ، يعني ولا يزيد ترك الشورى على كونه ترك واجب فهو فسق. وقلت : من حفظ حجّة على من لم يحفظ ، وإنّ القياس فيه فارق معتبر فإنّ الفسق مضرّته قاصرة على النفس وترك التشاور تعريض بمصالح المسلمين للخطر والفوات ، ومحمل الأمر عند المالكية للوجوب والأصل عندهم عدم الخصوصية في التّشريع إلّا لدليل.
وعن الشافعي أنّ هذا الأمر للاستحباب ، ولتقتدي به الأمّة ، وهو عامّ للرسول وغيره ، تطييبا لنفوس أصحابه ورفعا لأقدارهم ، وروى مثله عن قتادة ، والرّبيع ، وابن إسحاق. وردّ هذا أبو بكر أحمد بن عليّ الرازي الحنفي المشهور بالجصّاص بقوله : لو كان معلوما عندهم أنّهم إذا استفرغوا جهدهم في استنباط الصّواب عمّا سئلوا عنه ، ثمّ لم