وقوله : (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) خبر عن اسم الجلالة. والخبر هنا مستعمل في الامتنان ، أو هو تعريض ونكاية بأهل الكتاب : الذين أنكروا ذلك. وجيء بالمسند فعلا لإفادة تقوية الخبر ، أو للدلالة ـ مع ذلك ـ على الاختصاص : أي الله لا غيره نزّل عليك الكتاب إبطالا لقول المشركين : إنّ القرآن من كلام الشيطان ، أو من طرائق الكهانة ، أو يعلّمه بشر.
والتضعيف في (نَزَّلَ) للتعدية فهو يساوي الهمز في أنزل ، وإنّما التضعيف يؤذن بقوة الفعل في كيفيته أو كمّيته ، في الفعل المتعدّي بغير التضعيف ، من أجل أنّهم قد أتوا ببعض الأفعال المتعدّية ، للدلالة على ذلك ، كقولهم : فسر وفسّر ، وفرق وفرّق ، وكسر وكسّر ، كما أتوا بأفعال قاصرة بصيغة المضاعفة ، دون تعدية للدلالة على قوة الفعل ، كما قالوا : مات وموّت وصاح وصيّح. فأما إذا صار التضعيف للتعدية فلا أوقن بأنّه يدلّ على تقوية الفعل ، إلّا أن يقال : إنّ العدول عن التعدية بالهمز ، إلى التعدية بالتضعيف ، لقصد ما عهد في التضعيف من تقوية معنى الفعل ، فيكون قوله : (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) أهمّ من قوله : (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ) للدلالة على عظم شأن نزول القرآن. وقد بيّنت ذلك مستوفى في المقدّمة الأولى من هذا التفسير ، ووقع في «الكشاف» ، هنا وفي مواضع متعدّدة ، أن قال : إن نزّل يدل على التنجيم وإنّ أنزل يدل على أنّ الكتابين أنزلا جملة واحدة وهذا لا علاقة له بمعنى التقوية المدّعى للفعل المضاعف ، إلّا أن يعني أنّ نزّل مستعمل في لازم التكثير ، وهو التوزيع ورده أبو حيان بقوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) [الفرقان : ٣٢] فجمع بين التضعيف وقوله : (جُمْلَةً واحِدَةً). وأزيد أنّ التوراة والإنجيل نزلا مفرّقين كشأن كلّ ما ينزل على الرسل في مدة الرسالة ، وهو الحق : إذ لا يعرف أنّ كتابا نزل على رسول دفعة واحدة. والكتاب : القرآن. والباء في قوله : (بِالْحَقِ) للملابسة ، ومعنى ملابسته للحق اشتماله عليه في جميع ما يشتمل عليه من المعاني قال تعالى : (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) [الإسراء : ١٠٥].
ومعنى (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أنّه مصدق للكتب السابقة له ، وجعل السابق بين يديه : لأنّه يجيء قبله ، فكأنّه يمشي أمامه.
والتوراة اسم للكتاب المنزّل على موسى عليهالسلام ، وهو اسم عبراني أصله طورا بمعنى الهدي ، والظاهر أنّه اسم للألواح التي فيها الكلمات العشر التي نزلت على موسى عليهالسلام في جبل الطور ؛ لأنّها أصل الشريعة التي جاءت في كتب موسى ، فأطق ذلك