كل فرقة إليه وتعادي الفرقة الأخرى ليتم لهم ضرب بعضهم ببعض ، وقد أغرى بينهم العداوة ليأمن تألبهم عليه كما يقال «فرّق تحكم» وهي سياسة لا تليق إلا بالمكر بالضد والعدو ولا تليق بسياسة ولي أمر الأمة الواحدة.
وكان (رعمسيس) الثاني قسم بلاد مصر إلى ست وثلاثين إيالة وأقام على كل إيالة أمراء نوابا عنه ليتسنى له ما حكي عنه في هذه الآية بقوله تعالى (يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ) الواقع موقع الحال من ضمير (جَعَلَ) وأبدلت منها بدل اشتمال جملة (يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) لأنه ما فعل ذلك بهم إلا لأنه عدّهم ضعفاء ، أي أذلة فكان يسومهم العذاب ويسخّرهم لضرب اللبن وللأعمال الشاقة. والطائفة المستضعفة هي طائفة بني إسرائيل ، وضمير (مِنْهُمْ) عائد إلى (أَهْلَها) لا إلى (شِيَعاً). وتقدم الكلام على ذبح أبناء بني إسرائيل في سورة البقرة.
وجملة (إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) تعليل لجملة (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ). وقد علمت مما مضى عند قوله (قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) في سورة البقرة [٦٧] أن الخبر بتلك الصيغة أدل على تمكن الوصف مما لو قيل : أن أكون جاهلا ، فكذلك قوله (إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) دال على شدة تمكن الإفساد من خلقه ولفعل الكون إفادة تمكن خبر الفعل من اسمه.
فحصل تأكيد لمعنى تمكن الإفساد من فرعون ، ذلك أن فعله هذا اشتمل على مفاسد عظيمة.
المفسدة الأولى : التكبر والتجبر فإنه مفسدة نفسية عظيمة تتولد منها مفاسد جمة من احتقار الناس والاستخفاف بحقوقهم وسوء معاشرتهم وبث عداوته فيهم ، وسوء ظنه بهم وأن لا يرقب فيهم موجبات فضل سوى ما يرضي شهوته وغضبه ، فإذا انضم إلى ذلك أنه ولي أمرهم وراعيهم كانت صفة الكبر مقتضية سوء رعايته لهم والاجتراء على دحض حقوقهم ، وأن يرمقهم بعين الاحتقار فلا يعبأ بجلب الصالح لهم ودفع الضر عنهم ، وأن يبتز منافعهم لنفسه ويسخر من استطاع منهم لخدمة أغراضه وأن لا يلين لهم في سياسة فيعاملهم بالغلظة وفي ذلك بث الرعب في نفوسهم من بطشه وجبروته ، فهذه الصفة هي أمّ المفاسد وجماعها ولذلك قدمت على ما يذكر بعدها ثم أعقبت بأنه (كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ).
المفسدة الثانية : أنه جعل أهل المملكة شيعا وفرّقهم أقساما وجعل منهم شيعا مقربين منه ويفهم منه أنه جعل بعضهم بضد ذلك وذلك فساد في الأمة لأنه يثير بينها التحاسد