نكران الحق أنواع كثيرة.
والواو الداخلة على جملة (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يجوز أن تكون عاطفة على جملة (أَحَسِبَ النَّاسُ) [العنكبوت : ٢] ، ويجوز كونها عاطفة على جملة (وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) [العنكبوت : ٢] فتكون بمعنى الحال ، أي والحال قد فتنا الذين من قبلهم ، وعلى كلا التقديرين فالجملة معترضة بين ما قبلها وما تفرّع عنه من قوله (فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا). فلك أن تسمي تلك الواو اعتراضية. وإسناد فعل (فَتَنَّا) إلى الله تعالى لقصد تشريف هذه الفتون بأنه جرى على سنة الله في الأمم. فالفاء في قوله (فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا) تفريع على جملة (وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) [العنكبوت : ٢] ، أي يفتنون فيعلم الله الذين صدقوا منهم والكاذبين. والمفرع هو علم الله الحاصل في المستقبل كما يقتضيه توكيد فعل العلم بنون التوكيد التي لا يؤكد بها المضارع إلا مستقبلا. وهو تعلق بالمعلوم شبيه بالتعلق التنجيزي لصفتي الإرادة والقدرة وإن لم يسموه بهذا الاسم.
والمراد بالصدق هنا ثبات الشيء ورسوخه ، وبالكذب ارتفاعه وتزلزله ؛ وذلك أن المؤمنين حين قالوا (آمَنَّا) [العنكبوت : ٢] لم يكن منهم من هو كاذب في إخباره عن نفسه بأنه اعتقد عقيدة الإيمان واتبع رسوله ، فإذا لحقهم الفتون من أجل دخولهم في دين الإسلام فمن لم يعبأ بذلك ولم يترك اتباع الرسول فقد تبين رسوخ إيمانه ورباطة عزمه فكان إيمانه حقا وصدقا ، ومن ترك الإيمان خوف الفتنة فقد استبان من حاله عدم رسوخ إيمانه وتزلزله ، وهذا كقول النابغة :
أولئك قوم بأسهم غير كاذب وقول الأعشى في ضده يصف راحلته :
جماليّة تغتلي بالرّدا |
|
ف إذا كذب الآثمات الهجيرا |
وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى : (أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) في أول سورة يونس [٢].
ولما كان علم الله بمن يكون إيمانه صادقا عند الفتون ومن يكون إيمانه كاذبا بهذين المعنيين متقررا في الأزل من قبل أن يحصل الفتون والصدق والكذب تعين تأويل فعل (فَلَيَعْلَمَنَ) بمعنى : فليعلمن بكذب إيمانهم بهذا المعنى ، فهو من تعلق العلم بحصول أمر كان في علم الله أنه سيكون وهو شبيه بتعلق الإرادة المعبر عنه بالتعلق التنجيزي ولا مانع