مخالفا لأسلوب الذي قبله والذي بعده فعدل عن تركيب (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) [العنكبوت : ٦١] تفننا في الأساليب لتجديد نشاط السامع.
وأدمج في الاستدلال على انفراده تعالى بالرزق التذكير بأنه تعالى يرزق عباده على حسب مشيئته دليلا على أنه المختار في تصرفه وليس ذلك على مقادير حاجاتهم ولا على ما يبدو من الانتفاع بما يرزقونه.
وبسط الرزق : إكثاره ، وقدره : تقليله وتقتيره. والمقصود : أنه الرازق لأحوال الرزق ، وقد تقدم في قوله تعالى (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) في سورة الرعد [٢٦]. فجاءت هذه الآية على وزان قوله في سورة الروم [٣٧] (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) فجمع بين ضمير المشركين في أولها وبين كون الآيات للمؤمنين في آخرها.
وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ) لإفادة الاختصاص ، أي الله لا غيره يبسط الرزق ويقدر. والتعبير بالمضارع لإفادة تجدد البسط والقدر. وزيادة (لَهُ) بعد (وَيَقْدِرُ) في هذه الآية دون آية سورة الرعد وآية القصص للتعريض بتبصير المؤمنين الذين ابتلوا في أموالهم من اعتداء المشركين عليها كما أشار إليه قوله آنفا : (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا) [العنكبوت : ٦٠] بأن ذلك القدر في الرزق هو لهم لا عليهم لما ينجر لهم منه من الثواب ورفع الدرجات ، فغلّب في هذا الغرض جانب المؤمنين ولهذا لم يعدّ (يَقْدِرُ) بحرف (على) كما هو مقتضى معنى القدر كما في قوله تعالى : (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ) [الطلاق : ٧]. وقال بعض المفسرين : إن المشركين عيروا المسلمين بالفقر ، وقيل : إن بعض المسلمين قالوا : إن هاجرنا لم نجد ما ننفق.
والضمير المجرور باللام عائد إلى (من يشاء من عباده) باعتبار أن (من يشاء) عام ليس بشخص معين لا سيما وقد بيّن عمومه بقوله (مِنْ عِبادِهِ). والمعنى : أنه يبسط الرزق لفريق ويقدر لفريق.
والتذييل بقوله (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) لإفادة أن ذلك كله جار على حكمة لا يطلع عليها الناس ، وأن الله يعلم صبر الصابرين وجزع الجازعين كما تقدم في قوله في أول السورة : (فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) [العنكبوت : ٣] ، قال تعالى: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ