ثم إن مكارم الأخلاق قابلة للازدياد فكان حظ إبراهيم منها حظا كاملا لعله أكمل من حظ نوح بناء على أن إبراهيم أفضل الرسل بعد محمد صلىاللهعليهوسلم وادخر الله منتهى كمالها لرسوله محمد صلىاللهعليهوسلم فلذلك قال : «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» ، ولذلك أيضا وصفت ملة إبراهيم بالحنيفية ووصف الإسلام بزيادة ذلك في قول النبي صلىاللهعليهوسلم : «بعثت بالحنيفية السمحة». وتعليق كونه من شيعة نوح بهذا الحين المضاف إلى تلك الحالة كناية عن وصف نوح بسلامة القلب أيضا يحصل من قوله : (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ) إثبات مثل صفات نوح لإبراهيم ومن قوله : (إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) إثبات صفة مثل صفة إبراهيم لنوح على طريق الكناية في الإثباتين ، إلا أن ذلك أثبت لإبراهيم بالصريح ويثبت لنوح باللزوم فيكون أضعف فيه من إبراهيم.
و (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ) بدل من (جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) بدل اشتمال فإن قوله هذا لما نشأ عن امتلاء قلبه بالتوحيد والغضب لله على المشركين كان كالشيء المشتمل عليه قلبه السليم فصدر عنه.
و (ما ذا تَعْبُدُونَ) استفهام إنكاري على أن يعبدوا ما يعبدونه ولذلك أتبعه باستفهام آخر إنكاري وهو (أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ). وهذا الذي اقتضى الإتيان باسم الإشارة بعد «ما» الاستفهامية الذي هو مشرب معنى الموصول المشار إليه ، فاقتضى أن ما يعبدونه مشاهد لإبراهيم فانصرف الاستفهام بذلك إلى معنى دون الحقيقي وهو معنى الإنكار ، بخلاف قوله : (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ) في سورة الشعراء [٧٠] فإنه استفهام على معبوداتهم ولذلك أجابوا عنه (قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ) [٧١] ، وإنما أراد بالاستفهام هنالك التمهيد إلى المحاجّة فصوره في صورة الاستفهام لسماع جوابهم فينتقل إلى إبطاله ، كما هو ظاهر من ترتيب حجاجه هنالك ، فذلك حكاية لقول إبراهيم في ابتداء دعوته قومه ، وأما ما هنا فحكاية لبعض أقواله في إعادة الدعوة وتأكيدها.
وجملة (أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ) بيان لجملة (ما ذا تَعْبُدُونَ) بين به مصبّ الإنكار في قوله : (ما ذا تَعْبُدُونَ) وإيضاحه ، أي كيف تريدون آلهة إفكا.
وإرادة الشيء : ابتغاؤه والعزم على حصوله ، وحقّ فعلها أن يتعدى إلى المعاني قال ابن الدمينة :
تريدين قتلي قد ظفرت بذلك