تعقّله ؛ إذ العقل لا يحيط بما (١) لا ينضبط ولا يتميز عنده ، فإن تعيّن ولو بنسبة مّا ، أو من وجه مّا علم بتعيّنه من حيث ما تعيّن به ، وبحسبه لا مطلقا.
وهذا القدر من المعرفة المتعلّقة بهذا الغيب إنّما هي معرفة إجماليّة حاصلة بالكشف الأجلى ، والتعريف الإلهي الأعلى الذي لا واسطة فيه غير نفس التجلّي المتعيّن من هذه الحضرة الغيبيّة غير المتعيّنة ، وقد سبق التنبيه عليها وعلى كيفيّة حصولها ، ثم الاستدلال عليه ثانيا بما ظهر منه (٢) ، وامتاز عنه من الأسماء والآثار الوجوديّة ، والتجليات النوريّة المظهريّة ، ونحو ذلك ، كما لوّحت به في سرّ التشكّل والمتشكّل والشكل من قبل ؛ فإنّ هذا الغيب هو أصل كلّ ما ظهر وعلم وسواهما أعني ما انفرد الحقّ بمعرفته هو مقام الغنيّ عن العالمين والنسبة التي لا تعلّق لها بالسوى ؛ لارتفاع المناسبة ، كما مرّ بيانه. فأمّا من حيث نسبة تعلّقه بالعالم وتعلّق العالم به من جهة الألوهيّة (٣) وحكمها ، وسرّ المناسبات المذكورة في سرّ العلم والتأثير ، فمحكوم عليه بما ظهر به وأظهره ، وأخبر وعلّم وجلّى لمن شاء من عباده من غيب ذاته مهما تجلّى.
وأقرب المراتب نسبة إلى هذا الغيب العماء الذي هو النفس الرحماني ، وإليه تستند الأحديّة التي هي أوّل أحكام التعيّن الأوّل ، وأقربها نسبة إلى إطلاقه.
وهو أعني حضرة العماء حضرة الأسماء كلّها والصفات ، وصاحبة النعوت المذكورة من قبل ، وهو أوّل مرتبة الشهادة بالنسبة إلى الغيب الإلهي المذكور. وإلّا فهو غيب بالإضافة إلى ما تحته وهو آخر مرتبة الشهادة أيضا من حيث انتهاء كلّ كثرة صوريّة أو معنويّة عند التحليلين إليها.
والكثرة المشهودة في العالم منبثّة من الأحديّة المذكورة ، وظاهرة بها باعتبار ، ولكن لا بمعنى أنّ الواحد من حيث هو واحد يكون منبعا للكثرة من حيث هي كثرة ؛ إذ لا يصحّ أن يظهر من شيء ـ كائنا ما كان ـ ما يضادّه من حيث الحقيقة ، كما مرّ ، ولا خفاء في منافاة الوحدة للكثرة ، والواحد للكثير ، فتعذّر صدور أحدهما عن الآخر من الوجه المنافي.
__________________
(١) ق : إلّا بما.
(٢) ب : منه وعلى كيفيّة حصولها.
(٣) ق : الألوهة.