وبيانه أنّ مبدأ التوجّه الإلهي للإيجاد صدر من ينبوع الوحدة بأحدية الجمع ، وتعلّق بكمال الجلاء والاستجلاء المعبّر عن حكمه تارة بالعبادة ، وتارة بالمعرفة ، وهو قوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ) (١) الآية. بالتفسيرين ، والظاهر بهذا التوجّه من غيب الحقّ هو الوجود المنبسط على الأعيان لا غير.
ولمّا كان العالم بما فيه ظلّا لحضرة الحقّ ومظهرا لعلمه ، سرى الحكم واطّرد فيما هو تابع للعلم وفرع عليه ، فاعلم ذلك ، وإذا تقرّر هذا فلنعد إلى ما كنّا فيه من بيان سرّ بدء الأمر لنستوفيه.
فنقول : فانسحب (٢) حكم التوجّه الإلهي الأحدي لإيجاد عالم التدوين والتسطير على الأعيان الثابتة بعد ظهور الأرواح المهيّمة (٣) التي مرّ حديثها منصبغا بحكم كلّ ما حواه الغيب ممّا تعيّن به ، وامتاز عنه من وجه ، فكان توجّها جمعيّا وحدانيّ الصفة :
فأمّا جمعيّته فلما حواه الغيب ممّا أحاط به العلم وتعلّق بإبرازه. وأمّا أحديّته فلأنّ الإرادة وحدانيّة ، ومتعلّقها من كلّ مريد في الحال الواحد لا يكون إلّا أمرا واحدا ، والمريد الحقّ سبحانه واحد (٤) ، فإرادته واحدة لا محالة ، ومتعلّقها لا يكون في كلّ شأن إلّا أمرا واحدا هو غاية ذلك التوجّه الإرادي ونتيجته ، ومنزل التوجّه الإلهي ، ومحلّ نفوذ اقتداره ليس إلّا أمرا واحدا وأنّه العماء وقد مرّ حديثه ، فأنتج التوجّه الإلهي المذكور ـ كما قلنا في مقام عالم التدوين والتسطير ـ نتيجة وجوديّة متوحّدة حاملة كثرة غيبيّة نسبيّة ، فسمّاها الحقّ قلما وعقلا.
فعقلا من حيث الوجه الذي يلي ربّه ، ويقبل به ما يهبه ويمدّه ، ومن حيث إنّه أوّل موجود متعيّن عقل نفسه ، ومن تميّز عنه ، وما تميّز به عن غيره بخلاف من تقدّمه بالمرتبة وهم المهيّمون.
وقلما من حيث الوجه الذي يلي الكون ، فيؤثّر ويمدّ ، ومن حيث إنّه حامل للكثرة
__________________
(١) الذاريات (٥١) الآية ٥٦.
(٢) ق : فانسجب.
(٣) في بعض النسخ : المهيمنة.
(٤) ه : فواحد.