هذا ، مع أنّه ما عبد أحد إلّا الله ، ولا توجّه إلّا إليه ، من حيث إنّ تلك المرآة الكماليّة الإلهيّة قبلة كلّ موجود كان ويكون ، ومن حيث مواجهة كلّ شيء من هذه المرآة وفيها أصله المحاذي والمتعيّن له به من غيب الذات ، فكلّ أحد له قسط من الحقّ أخذه من مشكاة هذه المرتبة الكماليّة المسمّاة هنا بالمرآة ، وذلك القسط عبارة عن تعيّن الحقّ من حيث شأن من شؤونه ، وذو القسط صورة ذلك الشأن ، فافهم.
فو الله ما أظنّك تعرف مقصودي إلّا أن أمدّك الله بأيده ونوره ، وما فاز بالحقّ إلّا الكامل ، فإنّه يواجه غيب الذات بأحد وجهيه المنبّه عليه مواجهة ذاتيّة ، لا يمتاز المتوجّه فيها عن المتوجّه إليه إلّا بالجمع بين الوجهين المشتملين على أحكام الحضرتين : فهو المطلق المقيّد ، والبسيط المركّب ، والواحد الكثير ، والحادث الأزلي ، له وجد الكون ، وبه ظهر كلّ وصل وبين ، فتنبّه وانظر بما بيّنّا صحّة حكم قوله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) (١) وقوله الآخر : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) (٢) وقضاؤه حكمه بلا شكّ ، وأمره الحقيقي نافذ دون ريب ، كما قال سبحانه : (فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ) و (لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) (٣).
فلو لم يكن سرّ العبادة كما ذكر ، لزم أن تصحّ (٤) عبادة غير الله والتوجّه إليه ، ولزم تعقيب حكمه وردّ أمره ، ويتعالى الله عن ذلك وعن كلّ ما لا يليق بجلاله علوّا كبيرا.
فالتخطئة والمؤاخذه وقعتا من أجل الحصر والتعيين (٥) والإضافة ؛ لأنّ إضافة استحقاق العبادة لشيء واعتقاد أنّه الربّ المطلق التصرّف (٦) ، ذو الألوهيّة الشاملة الحكم على سبيل حصر هذه الأمور فيه والتعيّن (٧) جهل وخلاف الواقع ، فصحّت المؤاخذة مع نفاذ الحكم الأوّل والأمر المؤصّل.
__________________
(١) الإسراء (١٧) الآية ٢٣.
(٢) يوسف (١٢) الآية ٤٠.
(٣) الرعد (١٣) الآية ٤١.
(٤) ه : يصحّ.
(٥) ق : التعيّن.
(٦) ق : الصرف.
(٧) ق ، ه : التعيين.