ثم إنّ الطبيعة ـ التي تولّد عنها ما تولّد ـ عبارة أيضا عن معنى مجرّد مشتمل على أربع حقائق تسمّى : حرارة ، وبرودة ، ورطوبة ، ويبوسة. (١) وذلك المعنى يناسب كلّا من هذه الأربعة بذاته ، بل هو عين كلّ (٢) واحدة منها مع تضادّها ، ومع كونها ـ أعني الطبيعة ـ من حيث هي معنى جامعا للأربعة المذكورة. وهذه وجميع ما تقدّم ذكره عبارة عن معان مجرّدة لا يمكن ظهور شيء منها وإدراكه بمفرده ، ولا بدون الوجود ؛ فإنّ وجود الجميع أيضا من كونه وجودا بحتا لا يتعيّن بنفسه ، ولا يظهر من حيث هو فيدرك ، فإذا اجتماع هذه المعاني هو المستلزم لظهورها ، وإدراكها ، والاجتماع نسبة أو حالة لا وجود لها في عينها ، وما ثمّة أمر آخر يتعلّق به الإدراك ، وقد تعلّق فما هو؟ وكيف هو؟ وهذه صورتك التي من حيث هي أمكنك إدراك ما تدرك ناتجة عن الأصول المذكور شأنها ، وأجلّها الطبيعة ، فالصور ظهرت عن الطبيعة.
وإذا أمعنت النظر فيما ظهر عنها لم تلفه شيئا زائدا عليها ، ومع أنّ الذي ظهر ليس غيرها ، فليست من حيث معقوليّة كلّيّتها عين ما ظهر ، ولم تزدد بما ظهر عنها ولم تنتقص ولم تتميّز ؛ إذ ليس ثمّة غير فتميّز عنه ؛ لأنّ الذي ظهر عنها جزما ليس غيرها ، وهذا ما لا خفاء فيه ، فافهم.
وأمّا روحك الذي تزعم أنّه مدبّر لصورتك وكلّ ما يسمّى روحا فالحديث فيه أبسط وأطول ، وسرّه أخفى وأشكل ، وعن كنه ربّك فلا تسأل ، فقد منعت الخوض فيه وأويست فلا تطل فسر بعد وألق عصا التسيار «فما بعد العشيّة من عرار» ، ولعمر الله إن جمعت بالك ممّا نبّهتك عليه ، واستحضرت ما مرّ ذكره ، وأضفت هذا الفصل والذي يليه إليه ، رأيت العجب العجاب ، وعرفت السرّ الذي حيّر أولي الألباب.
__________________
(١) ق : يبوسة ورطوبة.
(٢) ه : كلواحدة.