فعلموا أنّ كلّ فرد فرد من أفراد صوره مظهر ومثال لحقيقة معنويّة غيبيّة ، وأنّ نسبة أعضاء الإنسان ـ الذي هو النسخة الجامعة ـ إلى قواه الباطنة نسبة صورة العالم إلى حقائقه الباطنة ، والحكم كالحكم فحال بصر الإنسان بالنسبة إلى المبصرات كحال البصيرة بالنسبة إلى المعقولات المعنويّة ، والمعلومات الغيبيّة ، ولمّا عجز البصر عن إدراك المبصرات الحقيرة مثل الذرّات والهباءات (١) ونحوهما ، وعن المبصرات العاليّة كوسط قرص الشمس عند كمال نوره ، فإنّه يتخيّل فيه سوادا لعجزه عن إدراكه ، مع أنّا نعلم أنّ الوسط منبع الأنوار والأشعّة ، ظهر أنّ تعلّق الإدراك البصري بما في طرفي الإفراط والتفريط من الخفاء التامّ والظهور التامّ متعذّر كما هو الأمر في النور المحض والظلمة المحضة في كونهما حجابين ، وأنّ بالمتوسّط بينهما الناتج منهما ـ وهو الضياء ـ تحصل الفائدة كما ستعرفه ـ إن شاء الله تعالى ـ.
فكذلك العقول والبصائر إنّما تدرك المعقولات والمعلومات المتوسّطة في الحقارة والعلوّ ، وتعجز عن المعقولات الحقيرة ، مثل مراتب الأمزجة والتغيّرات الجزئيّة على التعيين والتفصيل ، كالنماء والذبول في كلّ آن ، وعن إدراك الحقائق العاليّة القاهرة أيضا ، مثل ذات الحقّ جلّ وتعالى ، وحقائق أسمائه وصفاته إلّا بالله ، كما ذكرنا.
ورأوا أيضا أنّ من الأشياء ما تعذّر عليهم إدراكه للبعد المفرط ، كحركة الحيوان (٢) الصغير من المسافة البعيدة ، وكحركة جرم الشمس والكواكب في كلّ آن ، وهكذا الأمر في القرب المفرط ، فإنّ الهواء لاتّصاله بالحدقة يتعذّر إدراكه وكنفس الحدقة ، هذا في باب المبصرات ، وفي باب المعقولات والبصائر كالنفس التي هي المدركة من الإنسان ، وأقرب الأشياء نسبة إليه ، فيدرك الإنسان غيره ، ولا يدرك نفسه وحقيقته ، فتحقّق بهذا الطريق أيضا عجز البصائر والأبصار عن إدراك الحقائق الوجوديّة الإلهيّة والكونيّة ، وما تشتمل عليه من المعاني والأسرار. وظهر أنّ العلم الصحيح لا يحصل بالكسب والتعمّل ، ولا تستقلّ القوى البشريّة بتحصيله (٣) ما لم تجد الحقّ بالفيض الأقدس الغيبي ، والإمداد بالتجلّي النوري العلمي الذاتي الآتي حديثه لكن قبول التجلّي يتوقّف على استعداد مثبت
__________________
(١) ه : ألهيآت.
(٢) الحيواني.
(٣) ق : بتحصيل.