وجودنا فحسب ، بل من حيث اتّصاف أعياننا بالوجود ، وقيام الحياة بنا ، والعلم وارتفاع الموانع الحائلة بيننا وبين الشيء الذي نروم إدراكه ، بحيث يكون مستعدّا لأن يدرك ، فهذا أقلّ ما يتوقّف معرفتنا عليه ، وهذه جمعيّة كثرة وحقائق الأشياء في مقام تجرّدها وحدانيّة بسيطة ، والواحد والبسيط لا يدركه إلّا واحد وبسيط كما اومأت إليه من قبل ، وعلى ما سيوضّح سرّه عن قريب ـ إن شاء الله تعالى ـ فلم نعلم من الأشياء إلّا صفاتها وأعراضها من حيث هي صفات ولوازم لشيء مّا ، لا من حيث حقائقها المجرّدة ؛ إذ لو أدركنا شيئا من حيث حقيقته لا باعتبار صفة له أو خاصّة أو عارض أو لازم ، لجاز إدراك مثله ؛ فإنّ الحقائق من حيث هي حقائق متماثلة ، وما جاز على أحد من المثلين جاز على الآخر.
والمعرفة الإجماليّة المتعلّقة بحقائق الأشياء لم تحصل إلّا بعد تعلّقها ـ من كونها متعيّنة ـ بما تعيّنت به من الصفات أو الخواصّ أو العوارض (١) كما عرّفنا الصفة ـ من حيث تعيّنها ـ بمفهوم كونها صفة لموصوف مّا ، فأمّا كنه الحقائق من حيث تجرّدها فالعلم بها متعذّر إلّا من الوجه الخاصّ بارتفاع حكم النسب والصفات الكونيّة التقييديّة من العارف حال تحقّقه بمقام «كنت سمعه وبصره» وبالمرتبة التي فوقها ، المجاورة لها ، المختصّة بقرب الفرائض ، كما سنومئ إلى سرّ ذلك ـ إن شاء الله تعالى ـ ولهذا السرّ ـ الذي نبّهت على بعض أحكامه ـ أسرار أخر غامضة جدّا يعسر تفهيمها وتوصيلها ، أحدها حكم تجلّي الحقّ الساري في حقائق الممكنات الذي أشار شيخنا الإمام الأكمل (رضي الله عنه) إلى خاصّة من خواصّه تتعلّق بما كنّا فيه وذلك في قصيدة الهائيّة (٢) يناجي فيها ربّه يقول في أثنائها :
ولست أدرك في شيء حقيقته |
|
وكيف أدركه وأنتمو (٣) فيه |
فلمّا وقف المؤهّلون للتلقّي من الجناب الإلهي المعتلي على مرتبة الأكوان والوسائط ، على هذه المقدّمات (٤) والمنازل ، وتعدّوا بجذبات العناية الإلهيّة ما فيها من الحجب والمعاقد (٥) ، شهدوا في أوّل أمرهم ببصائرهم أنّ صورة العالم مثال لعالم المعاني والحقائق ،
__________________
(١) ق : اللوازم.
(٢) ه : الإلهية.
(٣) ق ، ه : أنتم.
(٤) ق : المقامات.
(٥) ق : المعاقل.