المتكلمين دون بعض ، كما في كونه عالما ، فإنه لما كان عالما لذاته ، وكانت المعلومات غير مقصورة ، وجب أن يكون عالما بسائر المعلومات ، فكان يجب أن يكون متكلما بالحسنى والرفث والكذب ، وأن يكون شاتما لنفسه ومثنيا على نفسه سوء الثناء ، تعالى الله عن ذلك ، ولوجب أن يكون مخبرا عن كل ما يصح الأخبار عنه ، والمعلوم خلافه ، فإنه تعالى قال : (مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) [غافر : ٧٨].
وأيضا ، فلو كان القديم تعالى متكلما لذاته لوجب أن يكون مكلما لذاته ، لأن المكلم إنما يكون مكلما بما به يكون متكلما ، وذلك يوجب أن يكون الله تعالى قد كلم المخلوقين أجمع جهرة ، وذلك محال ، وما أدى إليه ويقتضيه يجب أن يكون محالا.
فإن قيل : أليس أنه تعالى قادر لذاته عالم لذاته ، ثم لا يجب أن يكون معلما لذاته مقدرا لذاته ، فهلا جاز أن يكون متكلما لذاته ولا يكون مكلما لذاته. وجوابنا عن ذلك ، أن هذا لا يصح ، لأنا قد احترزنا عن ذلك بقولنا : إنه إنما يكون مكلما بما به يكون متكلما ، وليس كذلك هاهنا ، لأن المقدر إنما يكون مقدرا بخلق القدرة ، والمعلم إنما يكون معلما بخلق العلم ، ولم يثبت أنه خالق العلم والقدرة لذاته ، ففسد قياس أحدهما على الآخر.
فإن قيل : إنما يجوز في المتكلم أن يكون كاذبا إذا لم يثبت كونه صادقا لذاته ، وقد ثبت كون القديم تعالى صادقا لذاته فاستحال عليه الكذب ، وصار الحال فيه كالحال فيما نقوله في كونه حيا أنه يصحح كونه جاهلا وإنما يصحح ذلك بشرط أن لا يكون عالما لذاته ، كذلك هاهنا. وجوابنا عن ذلك ، أن الدليل قد دلنا على أنه تعالى عالم لذاته فاستحال كونه جاهلا ، ولم يثبت ذلك في كونه صادقا ، فصح قولنا أنه تعالى لو كان متكلما لذاته لم يكن بأن يكون صادقا لذاته أولى من أن يكون كاذبا لذاته.
فإن قيل : إنه بأن يكون صادقا لذاته أولى ، لأنه أخبر عن أشياء وكان كما أخبر ، قلنا : وما تلك الأشياء؟ قالوا : خلقه السموات والأرضين ، فقد قال تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [ق : ٣٨] وكان كما أخبر ، قلنا : أليس قد قال ذلك فيما لم يزل ولم يخلق السموات والأرضين ، فهلا حكمتم عليه بالكذب.
وأيضا فما أنكرتم أن يكون غرضه بقوله : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [ق : ٣٨] سماوات وأرضين لم يخلقها بعد ، فيكون كاذبا على ما قلناه ، تعالى الله عن ذلك