يعتزل الناس ويقيم في بيته ولا يجيب معاوية إلى شيء حتى تجتمع الكلمة ، ويدخل فيما دخل فيه المسلمون ، وأمّا ابنه محمّد فقط طمع فيما يطمع فيه فتيان قريش من الثراء وذيوع الاسم ، فأشار عليه بالالتحاق بمعاوية لينال من دنياه.
والتفت ابن العاص إلى ولده عبد الله فقال له : أمّا أنت فأمرتني بما هو خير لي في ديني ، ثمّ قال لولده محمّد أمّا أنت فأمرتني بما هو خير لي في دنياي.
وأنفق ابن العاص ليله ساهرا يفكّر في الأمر ، هل يلتحق بالإمام فيكون رجلا كسائر المسلمين له ما لهم ، وعليه ما عليهم من دون أن ينال من الدنيا شيئا ، ولكنّه يضمن بذلك آخرته ، أو يكون مع معاوية فيظفر بدنيا رخيّة وثراء عريض ، وكان ـ فيما يقول المؤرّخون ـ يحنّ حنينا متّصلة إلى ولاية مصر فإذا صار في سلك معاوية نال ولايتها وقد اثر عنه في تلك الليلة من الكلام ما يدلّ على مدى الصراع النفسي الذي خامره.
ولم يسفر الصبح حتّى آثر الدنيا على الآخرة فصمّم على الالتحاق بمعاوية ، فارتحل إلى دمشق ومعه ابناه ، فلمّا بلغها جعل يبكي أمرّ البكاء أمام أهل الشام ، وقد رفع صوته عاليا.
وا عثماناه! أنعى الحياء والدين ...
فعل ذلك لينقل إلى معاوية ... لقد امتحن المسلمون كأشدّ ما يكون الامتحان بابن العاص وأمثاله من أبناء الأسر القرشية العاتية التي بقيت على جاهليّتها الاولى ، ولم ينفذ الإسلام إلى دخائل نفوسهم وأعماق قلوبهم.
ابن العاص يبكي على عثمان ، وهو الذي أوغر عليه الصدور وأثار عليه الأحقاد ، وهو ممّن أطاح بحكومته ، وأجهز عليه ، فكان ـ فيما يقول المؤرّخون ـ يلقى كلّ أحد حتى الراعي فيحرّضه على سفك دم عثمان ، وهو الآن ينعاه ويبكي عليه ... لقد بلغ التهالك على السلطة في ذلك العصر وما قبله مبلغا مؤسفا وأليما