ثم معلوم أن الفعل للهلاك والفناء غير داخل في الحكمة ؛ ثبت أن ذلك غير مقصود ؛ فصار المقصود من ذلك وجها يبقى ؛ فثبت أن مع هذه دارا أخرى تبقى ، فهي المقصود ، وجعلت (١) بحق الجزاء ؛ وفي ذلك لزوم المحنة والقول بالرسالة ؛ ليعلم بالوحي كيفية وجوه المحنة مع ما لم يخل شيء من أن يكون فيه آثار النعمة ، من غير أن كان منه ما يستحق ذلك ؛ فثبت أنه في حق الابتداء ، ولازم شكر المنعم في العقول ؛ فيجب به وجهان :
أحدهما : القول بالرسل ؛ لبيان وجوه الشكر ؛ إذ النعم مختلفة ، وأصل الشكر يتفاضل على قدر المنعمين ؛ وكذلك النعم تتفاضل على قدر تفاضل متوليها ، لا بد من بيان ذلك ممن يعرف حقيقة مقادير النعم ، وجلالة حق المنعم ، وبالله التوفيق.
فكان فيها آيات الرسالة والتوحيد ، وحكمته وقدرته وعلمه وجلاله عن الأشباه والشركاء ، وبها جل عن احتمال الشرك في صنعه ، أو الشبه في فعله على أن كلّيّة كلّ من سواه تحت القدرة ، وهو المتعالي عن ذلك.
وفيه دلالة البعث ؛ لما ذكرت ، ولما إذ لزم الشكر بما ذكرت ـ لزمت عقوبة (٢) الكفران ، وقد يخرج المعروف به سليما غريقا في النعم ، وفي الحكمة والعقل عقوبته ـ لزم أن يكون ثمّ دار أخرى ، مع ما كان خلق الخلق ، لا لمن يعرف الحكمة من السفه ، والولاية من العداوة ، والخير من الشر ، والرغبة من الرهبة ، لا معنى له بما فيه تضييع الحكمة ، وجمع بين الذي حقه التفريق في الحكمة والعقل ، وذلك آية السفه ، ومحال كونه ممن الحكمة صفته والعدل نعته ؛ فلزم [به](٣) خلق الممتحن بالذي ذكرت ؛ فصار جميع الخلائق للمحن.
ثم لا بدّ من ترغيب وترهيب ؛ إذ على مثله جبل محتملو المحن ؛ فلزم به القول بالدار الأخرى ، وهو البعث ؛ ليكون إحداهما بحق ابتداء النعم ، والأخرى : بحق استحقاق الجزاء ، وإن كان لله التكليف بلا ، جزاء سابق النعم ، ولا قوة إلا بالله.
والمعاقبة واجبة في الحكمة للجفاء والكفران ، وبالله التوفيق.
وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ)
وقيل : [بمفازة ، أي : بنجاة من العذاب (٤) ، وهو ما ذكرنا من الفوز أنه نجاة على ما
__________________
(١) في ب : جعلت.
(٢) في ب : العقوبة.
(٣) سقط من ب.
(٤) قاله الضحاك : أخرجه عنه ابن المنذر كما في الدر المنثور (٢ / ١٩٣) وقاله أيضا ابن زيد أخرجه عنه الطبري (٧ / ٤٧٢) ، رقم (٨٣٥٣).