وهذه الآيات والأحاديث المتضافرة التي نقلها أصحاب الحديث لا تترك منتدحاً لمسلم أن ينكر القضاء والقدر ، نعم الكلام في تفسيرهما وتحديد معناهما على نحو لا يضاد ولا يخالف حاكمية الله واختياره أولاً ، ولا يزاحم حرية الإنسان وإرادته ثانياً ، إذ كما أن القدر والقضاء من الأمور اليقينية ، فكذا حاكميته سبحانه واختياره ، وحرية العبد وإرادته من الأمور اليقينية أيضاً وسوف يوافيك أن معنى القضاء والقدر الثابتين في الشرع ، ليس كما تصوره أصحاب الحديث والأشاعرة : من تحكيم القدر على اختياره سبحانه ، وإرادة عباده . بل تقديره وقضاؤه لا يعني إبطال حرية الإنسان واختياره ولأجل كون المقام من مزال الإقدام ، نهى الإمام أمير المؤمنين البسطاء عن الخوض في القضاء والقدر فقال في جواب من سأله عن القدر : « طريق مظلم فلا تسلكوه ، وبحر عميق فلا تلجوه ، وسر الله فلا تتكلفوه » (١) . ولكن كلامه عليه السلام متوجه إلى البسطاء من الأمة الذين لا يتحملون المعارف العليا ، لا إلى أهل المعرفة والنظر . ولأجل ذلك وردت جمل شافية في القضاء والقدر عن أئمة أهل البيت عليهم السلام وسيوافيك شطر منها عند عرض مذهب أهل الحديث في هذا الموقف .
المعتزلة طائفة من العدلية نشأت في أوائل القرن الثاني الهجري ويرجع أصلها إلى « واصل بن عطاء » تلميذ الحسن البصري ، ولهم منهج كلامي خاص وأصول معينة اتفقوا عليها ، وسوف نرجع إلى دراسة مذهبهم بعد الفراغ من دراسة مذهب أهل الحديث أولاً ، والأشاعرة ثانياً ، غير أن الذي نركز عليه هنا هو الوقوف على وجه تسميتهم بالمعتزلة تارة ، ووصف مدرستهم بالاعتزال أخرى ، وهناك آراء ستة نشير إلى بعضها :
أ ـ دخل رجل على الحسن البصري ( المتوفى عام ١١٠ ) فقال : « يا إمام الدين لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفرون أصحاب الكبائر ، والكبيرة عندهم
____________________
(١) شرح نهج البلاغة للشيخ محمد عبده : قسم الحكم ، الرقم ٢٨٧ .