ونزعاته أم لا ، وسواء أكانت لصالح المؤرخ وقومه أو لا ، ومن المعلوم أن القيام بذلك ، يتوقف على كون المؤرخ رجلاً موضوعياً متبنياً للحقيقة ، ومحباً لها أكثر من حبه لنفسه ونفيسه ومصالحه ، ولكن هذا النمط نادر بين المؤرخين ولا يقوم به منهم إلا الأمثل فالأمثل ولا يأتي بمثله الزمان إلا في الفينة بعد الأخرى ، ولأجل ذلك قل المؤرخون الموضوعيون المنصفون فإن أكثرهم يركزون على ما يروقهم وما يلائم أهواءهم والمذهب الذي يعتنقونه ، ويتركون ما سوى ذلك ، وليس هذا شيئاً محتاجاً إلى البرهنة والاستدلال بل يتضح بالرجوع إلى ما ألف من التواريخ أيام الدولتين : الأموية والعباسية ، فكل يخدم الحكومة التي كانت تعاصره وتدر عليه الرزق ، ومن ثم صارت التواريخ علبة المتناقضات وما ذاك إلا لأن الكاتب لم يراع واجبه الأخلاقي والاجتماعي وقبل كل شيء مسؤوليته الدينية .
تاريخ العقائد وتسجيل الفرق
هذا فيما يرجع إلى مطلق التاريخ والوقائع التي يواجهها المؤرخ في كل عصر ومصر سواء أكانت راجعة إلى الملوك والساسة ، أو السوقة والشعوب وأما تبيين عقائد الأمم ومذاهبها التي كانت تدين أو تتمذهب بها على ما هي عليه ، فذاك أمر صعب مستصعب ، وأشكل من القيام بالرسالة المتقدمة في مجال تسجيل الحوادث وضبط الوقائع ، وما هذا إلا لأن المؤلف في هاتيك المجالات ـ إلا ما شذ ـ مشدود إلى نزعات دينية وعقائد قومية ترسخت في ذهنه ونفسه وروحه ، والفكرة الدينية صحيحة كانت أو باطلة من أحب الأشياء عند الإنسان وربما يضحي في سبيلها بأثمن الأشياء وأغلاها .
هذا من جهة ومن جهة أخرى : إنّ القيام بهذه المهمة في مجال تاريخ العقائد يتوقف على تحلي المؤرخ بالشجاعة الأدبية والعلمية حتى يتمكن بهما من البحث الموضوعي حول عقائد الشعوب وعرضها على ما هي عليه ، والقيام بهذا الواجب عند فقدان هذين العاملين مشكل جدا ، ومن ثم يتحمل مؤرخ العقائد مسؤولية جسيمة أمام الله أولاً ، وأمام وجدانه ثانياً ، وأمام الأجيال القادمة والتاريخ ثالثاً .