جعلها مسانيد نطقه وبيانه ، وقد قيل : للمتكلم أن يلحق بكلامه ما شاء ما دام متكلّما ، هذا في القرائن المتّصلة. وكثيرا ما يعتمد المتكلمون على قرائن منفصلة من دلائل العقل أو الأعراف الخاصّة ، أو ينصب في كلام آخر له ما يفسّر مراده من كلام سبق ، كما في العموم والخصوص ، والإطلاق والتقييد ، وهكذا ...
فلو عرفنا من عادة متكلم اعتماده على قرائن منفصلة ، ليس لنا حمل كلامه على ظاهره البدائي ، قبل الفحص واليأس عن صوارفه.
والقرآن من هذا القبيل ، فيه من العموم ما كان تخصيصه في بيان آخر ، وهكذا تقييد مطلقاته وسائر الصوارف الكلاميّة المعروفة.
وليس لأيّ مفسّر أن يأخذ بظاهر آية ما لم يفحص عن صوارفها وسائر بيانات القرآن التي جاءت في غير آية ، ولا سيّما والقرآن قد يكرّر من بيان حكم أو حادثة ويختلف بيانه حسب الموارد ، ومن ثم يصلح كل واحد دليلا وكاشفا لما أبهم في مكان آخر.
وهكذا نرى مفسّرنا العظيم ، عبد الله بن عباس ، يجري على هذا المنوال ، وهو أمتن المجاري لفهم معاني القرآن ، ومقدّم على سائر الدلائل اللفظية والمعنوية. فلم يغفل النظر إلى القرآن الكريم نفسه ، في توضيح كثير من الآيات التي خفي المراد منها في موضع ، ثم وردت بشيء من التوضيح في موضع آخر. شأنه في ذلك شأن سائر المفسرين الأوائل ، الذين ساروا على هدى الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم.
فمن هذا القبيل ما رواه السيوطي بأسانيده إلى ابن عباس ، في قوله تعالى : (قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ...)(١) قال : كنتم أمواتا قبل أن يخلقكم ؛
__________________
(١) غافر / ١١.