وأما دعوى وقوع التحريف بعد زمان الخلفاء فلم يدّعها أحد فيما نعلم ، غير أنها نسبت إلى بعض القائلين بالتحريف ، فادّعى أن الحجاج لما قام بنصرة بني أمية أسقط من القرآن آيات كثيرة كانت قد نزلت فيهم ، وزاد فيه ما لم يكن منه ، وكتب مصاحف وبعثها إلى مصر ، والشام ، والحرمين ، والبصرة ، والكوفة ، وإن القرآن الموجود اليوم مطابق لتلك المصاحف. وأما المصاحف الاخرى فقد جمعها ولم يبق منها شيئا ولا نسخة واحدة (١).
وهذه الدعوى تشبه هذيان المحمومين ، وخرافات المجانين والأطفال ، فإن الحجاج واحد من ولاة بني أمية ، وهو أقصر باعا ، وأصغر قدرا من أن ينال القرآن بشيء ، بل وهو أعجز من أن يغير شيئا من الفروع الإسلامية ، فكيف يغير ما هو أساس الدين ، وقوام الشريعة؟ ومن أين له القدرة والنفوذ في جميع ممالك الإسلام وغيرها مع انتشار الإسلام فيها وكيف لم يذكر هذا الخطب العظيم مؤرخ في تاريخه ، ولا ناقد في نقده مع ما فيه من الأهمية ، وكثرة الدواعي إلى نقله ، وكيف لم يتعرض لنقله واحد من المسلمين في وقته ، وكيف أغضى المسلمون عن هذا العمل بعد انقضاء عهد الحجاج ، وانتهاء سلطته؟.
وهب أنه تمكن من جمع نسخ المصاحف جميعها ، ولم تشذ عن قدرته نسخة واحدة من أقطار المسلمين المتباعدة ، فهل تمكن من إزالته عن صدور المسلمين وقلوب حفظة القرآن؟ وعددهم في ذلك الوقت لا يحصيه إلا الله ، على أن القرآن لو كان في بعض آياته شىء يمس بني أمية ، لاهتمّ معاوية بإسقاطه قبل زمان الحجاج وهو أشد منه قدرة ، وأعظم نفوذا ، ولاستدل به أصحاب علي عليهالسلام على معاوية ، كما احتجوا عليه بما حفظه التاريخ ، وكتب الحديث والكلام ،
__________________
(١) مناهل العرفان : ص ٢٥٧.