وعن علة شقاوة هذه النفوس وخلودها في الشقاوة يقول الفارابي : وأما أهل المدينة الفاضلة فان الهيئات النفسانية التي اكتسبوها من آراء أسلافهم ، فهي تخلص أنفسهم من المادة والهيئات النفسانية الردية التي اكتسبوها من افعال الرذيلة ، فتقترن إلى الهيئات الأولى ، فتنكدر الأولى وتضادها ، فيلحق النفس من مضادة هذه لتلك أذى عظيم ، فيجتمع من هذين أذيان عظيمان للنفس ، وأن هذه الهيئات المستفادة من أفعال الجاهلية هي بالحقيقة يتبعها أذى عظيم في الجزء الناطق من النفس ، وإنما صار الجزء الناطق لا يشعر بأذى هذه لتشاغله بما يورد عليه الحواس ، فاذا انفرد دون الحواس شعر بما يتبع هذه الهيئات من الأذى ، وظهر له أذى هذه الهيئات ، فبقى الدهر كله في أذى عظيم ، فإن ألحق به من هو في مرتبته من أهل تلك المدينة ازداد أذى كل واحد منهم بصاحبه ، لأنّ المتلاحقين بلا نهاية ، تكون زيادات أذاهم في الزمان بلا نهاية فهذا هو الشقاء المضاد للسعادة. ١
أما بالنسبة إلى النفوس الجاهلة ، وهم الذين لم تحصل لديهم المعرفة بالمباديء ولا بالسعادة ولم يعتقدوا بها ، ولم يرشدوا إلى الأعمال التي ينالون بها السعادة ، فهؤلاء يقول عنهم الفارابي : أما أهل المدن الجاهلية فإنّ أنفسهم تبقى غير مستكملة ومحتاجة في قوامها إلى المادة ضرورة إن لم يرتسم فيها رسم حقيقة بشيء من المعقولات الأول أصلاً ، فاذا بطلت المادة التي بها كان قوامها ، بطلت القوى التي كان شأنها أن يكون بها قوام ما بطل ، وبطلت القوى التي كان من شأنها أن يكون بها قوام ما بقي... وهؤلاء هم الهالكون والصائرون إلى العدم على مثال ما يكون عليه البهائم والسباع والأفاعي. ٢
وقد أشار إلى هذا المعنى في كتاب ( السياسة المدنية ) بقوله : فاذا كانت
________________
١. آراء أهل المدينة الفاضلة ، ص ٦٧ ، ٦٨. |
٢. المصدر السابق ، ص ٦٧. |