لواجب الوجود واشتياقها له وإقبالها عليه. وشبه النفوس في ادراكها واشتياقها للمدركات بالقوى المدركة ، مثل قوة البصر وقوة الشم وغيرها من القوى ، وهذه القوى كل واحد منها تارة تكون مدركة بالقوة ، وتارة أخرى تكون مدركة بالفعل ، وكل واحدة من هذه القوى إن كانت لم تدرك قط بالفعل ، فهي مادامت بالقوة لا تتشوق إلى إدراك الشىء المخصوص ، لأنها لم تتعرف به بعد ، مثل من خلق مكفوف البصر ، وهذه هي حال النفوس التي يسميها الفلاسفة بالنفوس الجاهلة ، أما إن كانت قد أدركت بالفعل تارة ثم صارت بالقوة ، فإنها مادامت بالقوة تشتاق الى الادراك بالفعل ، لأنها قد تعرفت بذلك المدرك ، وتعلقت به وحنت اليه ، مثل من كان بصيراً ثم عمي ، فإنه لا يزال يشتاق إلى المبصرات وهذه هي حال النفوس الشقية.
وبالنسبة إلى الشيء المدرك ، يرى ابن طفيل أنه كلما كان الشيء المدرك أتم وأبهى وأحسن ، يكون الشوق إليه والتألم لفقده أعظم ، فاذا كان في الأشياء شيء لا نهاية لكماله ولا غاية لحسنه وجماله وبهائه ، وهو فوق الكمال والبهاء والحسن ، وليس في الوجود كمال ولا حسن ولا بهاء ولا جمال إلا صادر من جهته ، فمن فقد إدراك ذلك الشيء بعد أن تعرف به ، فلا محالة أنه مادام فاقداً له يكون في آلام لانهاية لها كما أن من كان مدركاً له على الدوام فان له يكون في لذة لا انفصام لها ، وبهجة وسرور لا نهاية لهما.
فالمعيار في سعادة النفوس عند ابن طفيل هو إدراك واجب الوجود والاقبال عليه بعد معرفته ، وبناءً على ذلك يقول ابن طفيل عن النفوس التي يسميها بعض الفلاسفة بالنفوس الجاهلة بعد طرحها للبدن بالموت : فأما أن يكون قبل ذلك ـ في مدة تصريفه للبدن ـ لم يتعرف قط بهذا الموجود الواجب الوجود ولا اتصل به ولا سمع عنه ، فهذا إذا فارق البدن لا يشتاق إلى ذلك الموجود ولا يتألم لفقده.