الممرّضات في العهد الشاهاني المقيت كنّ على صفات أقلّ ما يقال فيها بأنّها دنيويّة غير ملتزمة ، وتغيّر الحال بعد الإسلام فقد تحوّلن تحت لواء الدولة الإسلاميّة إلى المثل العليا والقيم الفاضلة والأخلاق الحميدة ، ولقد لمسنا برعايتهنّ لنا نحن المرض الذي خرجنا من تحت سلطان الموت أشدّ ضعفاً من وليد اليوم واليومين ؛ يوم كنّا نرقد تحت رحمتهنّ أقول لمسنا « حنان الأُمّهات » مع الوقار العظيم والعفاف والحبّ الطهور للمرضى جزاهنّ الله خير جزاء المحسنين. هذا ولم يعهد من صبايا في مثل أعمارهنّ وجمالهنّ مثل هذا الأدب الفائق والرحمة والكمال. ولست أدري إن كان صحيحاً تعميم الحكم أو يختصّ بالمشفى الذي رقدت فيه لأنّه خاصّ بشركة النفط ، مهما تكن الحال فإنّي أتحدّث عمّا رأيت ولا يعنيني ما غاب عنّي.
وأخيراً قرّر الدكتور رمضاني يوم العمل وهو يوم الخميس ، ونقلت من حجرتي الخاصّة إلى « دار العمل » وما هي إلّا ثوان ودكتور التخدير يأمرني بالإكثار من الصلاة على النبيّ حتّى متُّ على نحو الحقيقة فلم أشعر بشيء ممّا حولي وما يجري عليّ مطلقاً بل تحوّلت إلى حجر من الصوان ، تقلّبني الأيدي يميناً وشمالاً وفتحوا الصدر وأسكتوا القلب والرئتين كليهما وعبّئوا القلب بأكياس الثلج ونابت عنّي الآلة في النفس وفي تنظيم الدورة الدمويّة ، كلّ هذا تلقّيته بعد رجوعي إلى الوعي على شكل حديث وقد جرى في بدني فعلاً وأنا بين الموت والحياة وبقيت هكذا ثماني ساعات حتّى عاودني الوعي على صوت ولدي الدكتور بهاء حفظه الله : « أبتاه الحمد الله لقد تمّ العمل بنجاح .. » والحمد لله ربّ العالمين فكان سمعي وحده الذي يعمل ، وهنّأني دكتور التخدير على عودة الحياة وبارك لي ذلك وبدأت الحياة تدبّ في أوصالي شيئاً فشيئاً حتّى شعرت بها بكلّ وجودي.
وهكذا عبرت الممرّ الموحش بين عالم الدنيا وعالم الآخرة
ورجعت إلى الدنيا