النفس بالزهادة في حطام الدنيا والفوز بمراتب الكمال ، وإنّما كان نكيره على أُمّة اتّخذت كنوزاً مكدّسة من الذهب والفضّة على غير وجه حلّها ، كما فصّلنا القول في ذلك تفصيلاً.
وإذ لم يجد ابن كثير شاهداً قويماً لما ادّعاه من أقوال أبي ذر تشبّث بعمله ، فقال : وقد اختبره معاوية رضى الله عنه وهو عنده ، هل يوافق عمله قوله؟ فبعث إليه بألف دينار ففرّقها من يومه ، ثمّ بعث إليه الذي أتاه بها فقال : إنّ معاوية إنّما بعثني إلى غيرك فأخطأت فهات الذهب ، فقال : ويحك إنّها خرجت ، ولكن إذا جاء مالي حاسبناك به (١).
وليس فيه إلاّ زهد أبي ذر المهلك سبده ولبده (٢) ، ولم يكن عمله هذا عن فتوى ولا إيجاب ، وإنّما كان تطوّعاً ومبالغة في الزهادة والجود ، وقد سبقه إلى ذلك سيّد البشر صلىاللهعليهوآلهوسلم ، عاش صلىاللهعليهوآلهوسلم كما عرفت ومات ولم يدع ديناراً ولا درهماً ولا عبداً ولا أمةً ولا شاةً ولا بعيراً ، وترك درعه رهناً عند يهودي بثلاثين صاعاً من شعير (٣) وحذا حذوه آله سلام الله عليهم الذين كانوا (يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) ، (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) (الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) (٤) ، (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً) (٥) وقد خرج الإمام السبط الحسن الزكيّ من ماله
__________________
(١) تفسير ابن كثير : ٢ / ٣٣٥٣.
(٢) السَّبَد : الوبر ، وقيل : الشعر. والعرب تقول : ماله سَبَدٌ ولا لَبَد ، أي ماله ذو وبر ولا صوف متلبد ، يكنّى بهما عن الإبل والغنم.
(٣) طبقات ابن سعد طبع مصر ، رقم التسلسل : ٨٣٦ ، ٨٣٧ [٢ / ٣١٧] ، مسند أحمد : ١ / ٣٠٠ [١ / ٤٩٣ ح ٢٧١٩] ، تاريخ الخطيب البغدادي : ٤ / ٣٩٦ [رقم ٢٢٨٨]. (المؤلف)
(٤) راجع ما فصّلناه في الجزء الثاني : ص ٤٧ ، ٥٢ و ٣ / ١٥٥ ـ ١٦٣. (المؤلف)
(٥) نزلت في أمير المؤمنين كما مرّ في هذا الجزء : ص ٥٤. (المؤلف)