إنّ حادثة كمثلها لا تستر بإنكار مثل ابن المسيّب المنبعث عن الولاء الأموي لكنّه شاء أن يقول فقال ، ذاهلاً عن أنّه لا يقبل منه ذو مسكة أن يترك مثل أبي ذر دار هجرته ومهجر شرفه ويعرض عن جوار نبيّه ويختار الربذة منزلاً له ولأهله مع جدبها وقفرها ، ولو كانت له خيرة في الأمر ، فما تلك المدامع الجارية من لوعة المصاب وغصّة الاكتئاب؟ وما تلكم النفثات الملفوظة منه ومن مشيّعيه في ذلك الوادي الوعر لمّا حان التوديع وآن الفرقان بين الأحبّة؟
ومن أمانة البلاذري في النقل أنّه عند سرد قصّة أبي ذر ومشايعة مولانا أمير المؤمنين له قال : جرى بين عليّ وعثمان في ذلك كلام. ولم يذكر ما جرى لأنّ فيه نيلاً من صاحبه.
ابن جرير الطبري :
وإنّك تجد الطبري في التاريخ (١) لمّا بلغ إلى تاريخ أبي ذر يقول : في هذه السنة ـ أعني سنة ٣٠ ـ كان ما ذكر من أمر أبي ذر ومعاوية وإشخاص معاوية إيّاه من الشام إلى المدينة ، وقد ذُكِر في سبب إشخاصه إيّاه منها إليها أمورٌ كثيرة كرهت ذكر أكثرها ، فأمّا العاذرون معاوية في ذلك فإنّهم ذكروا في ذلك قصّة. انتهى.
لما ذا ترك الطبري تلكم الأمور الكثيرة ولم يذكر منها إلاّ قصّة العاذرين التي افتعلوها معذرة لمعاوية وتبريراً لعمل الخليفة؟ وأمّا الحقائق الراهنة التي كانت تمسّ كرامة الرجلين ، وكانت حديث أُمّة محمد وقتئذ وهلمّ جرا من ذلك اليوم حتى عصرنا الحاضر فكره إيرادها ، وحسب أنّها تبقى مستورة إن لم يلهج هو بها ، وقد ذهب عليه أنّ في فجوات الدهر ، وثنايا التاريخ ، وغضون كتب الحديث منها بقايا كافية لمن
__________________
(١) تاريخ الأُمم والملوك : ٤ / ٢٨٣ حوادث سنة ٣٠ ه.