فإنه وإن كان لفظه لفظ التعجّب فالمراد به المبالغة في وصف الله تعالى بالقدرة ، كقوله : (فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) [مريم : ٧٥] جاء بصيغة الأمر ، وإن لم يكن في الحقيقة أمرا» انتهى كلامه.
وهو نصّ صريح في المسألة وناطق بالاتّفاق على صحّة إطلاق هذا اللّفظ ، وأنّه غير مستنكر ، ولكنّه مختلف فيه : هل يبقى على حقيقته من التعجّب ، ويحمل (ما) على الأوجه الثلاثة ، أو يجعل مجازا عن الإخبار؟ وأمّا إنكار اللفظ فلم يقل به أحد ، والأصحّ أنّه باق على معناه من التعجّب. وقال الباجي أبو الوليد (١) في (كتاب السّنن) من تصنيفه ، في باب «أدعية من غير القرآن» فذكر منها : ما أحلمك عمّن عصاك ، وأقربك ممّن دعاك ، وأعطفك على من سألك ، وذكر شعر المغيرة : [مجزوء الرجز]
سبحانك اللهمّ ما |
|
أجلّ عندي مثلك |
انتهى.
ورأيت أنا في السّيرة عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه رواية ابن إسحاق ، عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه (٢) ـ وناهيك بهما في جوار ابن الدّغنّة (٣) قال القاسم : «إنّ أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ لقيه سفيه من سفهاء قريش ، وهو عامد إلى الكعبة ، فحثا عى رأسه ترابا. فمرّ بأبي بكر الوليد بن المغيرة أو العاص بن وائل ، فقال : ألا ترى ما يصنع هذا السّفيه؟ قال : أنت فعلت ذلك بنفسك. وهو يقول : «أي ربّ ما أحلمك ، أيّ ربّ ما أحلمك ، أي ربّ ما أحلمك» (٤) انتهى. ولو لم يكن في هذا إلّا كلام القاسم بن محمد لكفى ، فضلا عن روايته عن أبي بكر ، وإن كانت مرسلة.
قال الزّمخشري في قوله تعالى : (ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) [الرحمن : ٢٧] :
__________________
(١) سليمان بن خلف بن سعد ، أبو الوليد الباجي الفقيه المتكلّم المفسّر الشاعر. من مصنّفاته : الاستيفاء شرح الموطأ ، والمنتقى مختصر الاستيفاء ، والتعديل والتجريح ، وتفسير القرآن ، والمهذّب في اختصار المدوّنة ، وكتاب فرق الفقهاء ، وكتاب السنن في الرقائق والزهد ، وغيرها. (ت ٤٩٤ ه). ترجمته في معجم الأدباء (٣ / ٣٩٣) «دار الكتب العلمية».
(٢) أبوه هو القاسم بن محمد : حفيد أبي بكر الصديق ، ومن سادات التابعين ، وأحد الفقهاء السبعة في المدينة (ت ١٠٧ ه). ترجمته في الوافي بالوفيات (١ / ٤١٨) ، وحلية الأولياء (٢ / ١٨٣).
(٣) ابن الدّغنّة : أخو بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة ، وهو سيّد الأحابيش (انظر السيرة النبوية ص ٣٧٢).
(٤) انظر السيرة النبوية (ص ٣٧٢).