منه بشيء» يفهم منه أنّه اعتبر مثل القرآن كلا له أجزاء ، ورجع التعجيز إلى الإتيان بجزء منه ، ولهذا مثّل بقوله : ائت من مثل الحماسة ببيت ، فكان مثل الحماسة كتابا أمر بالإتيان ببيت منه على سبيل التعجيز ، وإذا كان الأمر على هذا النّمط فلا شكّ أنّ الذّوق يحكم بأنّ تعلّق من مثله بالإتيان يقتضي وجود المثل ورجوع العجز إلى أن يؤتى بشيء منه ، وأمّا إذا جعلنا مثل القرآن كليّا يصدق على كلّه وبعضه وعلى كلّ كلام يكون في طبقة البلاغة القرآنية فلا نسلّم أنّ الذّوق يشهد بوجود المثل ورجوع العجز إلى أن يؤتى منه بشيء ، بل الذوق يقتضي أن لا يكون لهذا الكليّ فرد غير القرآن ، والأمر راجع إلى الإتيان بفرد آخر من هذا الكليّ على سبيل التعجيز ، ومثل هذا يقع كثيرا في محاورات الناس ، مثلا إذا كان عند رجل ياقوتة ثمينة في الغاية قلّما يوجد مثلها يقول في مقام التصلّف : من يأتي من مثل هذه الياقوتة بياقوتة أخرى؟ والناس يفهمون منه أنّه يدّعي أنّه لا يوجد آخر من نوعه ، فظهر أنّه على هذا التقدير لا يلزم من تعلّق «من مثله» بقوله : فأتوا أن يكون مثل القرآن موجودا ، فلا محذور.
وأمّا المثال المقيس عليه أعني قوله : ائت من مثل الحماسة ببيت ، فنقول : هذا لا يطابق الغرض ، فإنّ الحماسة إنما تطلق على مجموع الكتاب ، فلا بدّ أن يكون مثله كتابا آخر أيضا ، وحينئذ يلزم المحذور ، وأمّا القرآن فإنّ له مفهوما كليّا يصدق على كلّ القرآن وأبعاضه وأبعاض أبعاضه إلى حدّ لا تزول عنه البلاغة القرآنية ، وحينئذ يكون الغرض منه المفهوم الكليّ ، وهو نوع من أنواع الكلام البليغ فرده القرآن وقد أمر بإتيان فرد آخر من هذا النوع فلا محذور.
قال في شرحه (المختصر على التلخيص) ، في معرض الجواب عن هذا السؤال : قلت لأنّه يفتقر إلى ثبوت مثل القرآن في البلاعة وعلو الطبقة بشهادة الذوق ، إذ العجز إنما يكون عن المأتي به ، فكان مثل القرآن ثابتا ، لكنّهم عجزوا عن أن يأتوا منه بسورة ، بخلاف ما إذا كان وصفا للسورة ، فإنّ المعجوز عنه هو السورة الموصوفة باعتبار انتفاء الوصف ، فإن قلت : فليكن العجز باعتبار المأتي به ، قلت : احتمال عقلي لا يسبق إلى الفهم ولا يوجد له مساغ في اعتبارات البلغاء واستعمالاتهم ، فلا اعتداد به. انتهى كلامه.
وأقول : لا يخفى أنّ كلامه هاهنا مجمل ليس نصّا فيما قصد به في كلامه في شرح الكشاف ، وحينئذ نقول : إن أراد بقوله : «إذ العجز إنما يكون عن المأتي به فكان مثل القرآن ثابتا» أن العجز باعتبار المأتي به مستلزم أن يكون مثل القرآن