يقولون بإثر ذلك : وصلّى الله على محمد ، فيعطفون الصّلاة على التحميد ، ولا فرق بين عطفها على التحميد وعطفها على البسملة ، لأنّ كلتا الجملتين خبر ، وهذا ليس مختصا بكتب الضعفاء في العربية دون الأقوياء ، ولا يكتب الجهّال دون العلماء ، بل ذلك موجود في كتب الأئمّة المتقدّمين والعلماء المبرّزين ، كالفارسيّ وأبي العباس المبرّد والمازني وغيرهم ، فلو لم يكن بأيدينا دليل ندفع به مذهب هؤلاء إلا هذا لكفى من غيره ، فتأمّل خطبتي كتاب الإيضاح للفارسي وصدر الكامل لأبي العباس المبرّد وصدر كتاب سيبويه ، وغير ذلك من الكتب ، وتأمّل خطب الخطباء وكلام الفصحاء والبلغاء ، فإنّك تجدهم مطبقين على ما وصفته لك ، فهذا وجه صحيح يدل على فساد ما قالوا.
ومنها : أنّ قولنا : وصلّى الله على محمّد بإثر البسملة منصرف إلى معنى الخبر ، ولذلك تأويلات مختلفة :
أحدها : أن يكون تقديره : أبدأ باسم الله الرحمن الرحيم وأقول : صلّى الله على محمد ، فيضمر القول ويعطفه على «أبدأ» ، وذلك ممّا يصرف الكلام إلى الإخبار ، والعرب تحذف القول حذفا مطردا ، شهرته تغني عن إيراد أمثلة منه ، كقوله تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [الرعد : ٢٤] ، أي : يقولون : سلام عليكم ، وكذا قوله : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] ، أي : يقولون : ما نعبدهم إلّا ليقرّبونا إلى الله زلفى.
الثاني : على معنى : أبدأ باسم الله وبالصلاة على محمد ، فيكون من الكلام المحمول على التأويل ، كما أجاز سيبويه (١) : «قلّ رجل يقول ذلك إلّا زيد» لأنه في معنى : «ما أحد يقول ذلك إلّا زيد» ، وهذا كثير لا يستطيع أحد من أهل هذه الصناعة على دفعه ، وإن شئت كان التقدير : أبدأ باسم الله وأصلّي على محمد ، فيكون محمولا أيضا على المعنى ، وهذه التأويلات الثلاثة تصيره وإن كان دعاء إلى معنى الإخبار ، فهذا وجه آخر صحيح.
ومنها : أنه لا يستحيل عطف قولنا : وصلّى الله على محمد على قولنا : بسم الله وإن كان دعاء محضا من غير أن يتأوّل فيه تأويل إخبار ، لأنّا وجدنا العرب يوقعون الجمل المركّبة تركيب الدّعاء والأمر والنهي والاستفهام التي لا يصلح أن يقال فيها
__________________
(١) انظر الكتاب (٢ / ٣٢٦).