كان يراه أبو الحسن من أن يكون (بينكم) وإن كان منصوب اللفظ مرفوع الموضع بفعله ، غير أنه أقرّت نصبة الظرف وإن كان مرفوع الموضع ؛ لاطّراد استعمالهم إياه ظرفا. إلا أن استعمال الجملة التى هى صفة للمبتدإ مكانه أسهل من استعمالها فاعلة ؛ لأنه ليس يلزم أن يكون المبتدأ اسما محضا كلزوم ذلك فى الفاعل ؛ ألا ترى إلى قولهم : تسمع بالمعيدىّ خير من أن تراه ؛ أى سماعك به خير من رؤيته. وقد تقصّينا ذلك فى غير موضع.
وقد حذفت الصفة ودلّت الحال عليها. وذلك فيما حكاه صاحب الكتاب من قولهم : سير عليه ليل ، وهم يريدون : ليل طويل. وكأنّ هذا إنما حذفت فيه الصفة لما دلّ من الحال على موضعها. وذلك أنك تحسّ فى كلام القائل لذلك من التطويح والتطريح والتفخيم والتعظيم ما يقوم مقام قوله : طويل أو نحو ذلك.
وأنت تحسّ هذا من نفسك إذا تأمّلته. وذلك أن تكون فى مدح إنسان والثناء عليه ، فتقول : كان والله رجلا! فتزيد فى قوّة اللفظ ب (الله) هذه الكلمة ، وتتمكّن فى تمطيط اللام وإطالة الصوت بها (وعليها) أى رجلا فاضلا أو شجاعا أو كريما أو نحو ذلك. وكذلك تقول : سألناه فوجدناه إنسانا! وتمكّن الصوت بإنسان وتفخّمه ، فتستغنى بذلك عن وصفه بقولك : إنسانا سمحا أو جوادا أو نحو ذلك. وكذلك إن ذممته ووصفته بالضيق قلت : سألناه وكان إنسانا! وتزوى وجهك وتقطّبه ، فيغنى ذلك عن قولك : إنسانا لئيما أو لجزا أو مبخلا أو نحو ذلك.
فعلى هذا وما يجرى مجراه تحذف الصفة. فأمّا إن عريت من الدلالة عليها من اللفظ أو من الحال فإنّ حذفها لا يجوز ؛ ألا تراك لو قلت : وردنا البصرة فاجتزنا بالأبلّة على رجل ، أو رأينا بستانا وسكتّ لم (تفد بذلك) شيئا ؛ لأن هذا ونحوه ممّا لا يعرى منه ذلك المكان ، وإنما المتوقّع أن تصف من ذكرت أو ما ذكرت. فإن لم تفعل كلّفت علم ما (لم تدلل) عليه ؛ وهذا لغو من الحديث وجور فى التكليف.
ومن ذلك ما يروى فى الحديث : لا صلاة لجار المسجد إلا فى المسجد أى لا صلاة كاملة أو فاضلة ، ونحو ذلك. وقد خالف فى ذلك من لا يعدّ خلافه خلافا.