ولما عرف الأفرنج رحيل العساكر ، وتفرقهم اجتمعوا ، ونزلوا أفامية بأسرهم : بغدوين ، وطنكري ، وابن صنجيل ، بعد التباين والمنافرة والخلف ، وصاروا يدا واحدة وكلمة متفقة على الاسلام وأهله ، وساروا لقصدهم ، فخرج سلطان بن منقذ من شيزر بنفسه وجماعته ، واجتمع مع أتابك ومودود ، وحرّضهما على الجهاد ، وهون عليهما أمر الأفرنج ، فرحلوا وقطعوا العاصي ، ونزلوا في قبلي شيزر ، وصار سوق العسكر في سوق شيزر ، ونزل عسكر مودود حول شيزر ، وبالغ ابن منقذ وجماعته في الخدمة والمواصلة بالميرة ، وأصعد أتابك ومودود وخواصهما إلى حصن شيزر ، وباشر خدمتهما بنفسه وأسرته ، ونزل الأفرنج شمالي تل ابن معشر ودبر أمر العسكر أحسن تدبير ، وبثت الخيل من جميع جهاتهم تطوف حولهم ، وتجول عليهم ، وتمنع من الوصول إليهم ، وضيقوا عليهم وحلأوهم عن (١) الماء وذادوهم عن العاصي لكثرة الرماة على شطوطه وجوانبه من قبليه ، فما يدنو منه من الأفرنج شخص إلا وقد قتل ، وطمع الأتراك فيهم وسهل أمرهم عليهم ، وكانت خيل المسلمين مثل خيل الأفرنج إلا أن راجلهم أكثر ، وزحف الأتراك إليهم فنزلوا للحرب عن تل كانوا عليه ، فهجمت الأتراك عليهم من غربيهم ونهبوا جانبا من عسكرهم ، وملكوا عدة من خيامهم وأثقالهم ، وجالوا حولهم ، فعادوا إلى مكانهم الذي كانوا به ، ورجعوا منه ، وذلك في شهر ربيع الأول ، واشتد خوف الأفرنج من الأتراك ، وأقاموا ثلاثة أيام لا يظهر أحد منهم ، ولا يصل إليهم شخص ، وعاد المسلمون لصلاة الجمعة في جامع شيزر ، فرحل الأفرنج إلى أفامية ولم ينزلوا فيها ، بل تعدوها ، وتبعهم المسلمون عند معرفة (٩٧ و) رحيلهم ، وتخطفوا أطرافهم ، ومن ظفروا به سائرا على آثارهم ، وعادوا إلى شيزر ، ورحلوا إلى حماة ، واستبشر الناس بعود الأفرنج على هذه الحال.
__________________
(١) أي صدوهم ونفوهم. النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير.