تحت أهلها ، استقام المعنى الذي ذكر أنه لا يناسب ، إذ ليس المعنى بأمر الجنات واختيارها. وقيل : المعنى في من تحتها : من جهتها. وقد روي عن مسروق : أن أنهار الجنة تجري في غير أخاديد ، وأنها تجري على سطح أرض الجنة منبسطة. وإذا صح هذا النقل ، فهو أبلغ في النزهة ، وأحلى في المنظر ، وأبهج للنفس. فإن الماء الجاري ينبسط على وجه الأرض جوهره فيحسن اندفاعه وتكسره ، وأحسن البساتين ما كانت أشجاره ملتفة وظله ضافيا وماؤه صافيا منسابا على وجه أرضه ، لا سيما الجنة ، حصباؤها الدر والياقوت واللؤلؤ ، فتتكسر تلك المياه على ذلك الحصى ، ويجلو صفاء الماء بهجة تلك الجواهر ، وتسمع لذلك الماء المتكسر على تلك اليواقيت واللآلئ له خريرا ، قال شيخنا الأديب البارع أبو الحكم مالك بن المرحل المالقي ، رحمهالله تعالى ، من كلمة :
وتحدث الماء الزلال مع الحصى |
|
فجرى النسيم عليه يسمع ما جرى |
خرج الترمذي من حديث حكيم بن معاوية ، عن أبيه ، عن النبي صلىاللهعليهوسلم : «إن في الجنة بحر الماء ، وبحر العسل ، وبحر اللبن ، وبحر الخمر ، ثم تشقق الأنهار بعده». ويؤيد هذا الحديث قوله تعالى : (فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) (١) الآية. ولما كانت الجنة لا تشوق ، والروض لا يروق إلا بالماء الذي يقوم لها مقام الأرواح للأشباح ، ما كاد مجيء ذكرها إلا مشفوعا بذكر الأنهار ، مقدما هذا الوصف فيها على سائر الأوصاف. قال ابن عطية : نسب الجري إلى النهر ، وإنما يجري الماء وحده توسعا وتجوزا ، كما قال تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) (٢) ، وكما قال الشاعر :
نبئت أن النار بعدك أوقدت |
|
واستب بعدك يا كليب المجلس |
انتهى كلامه.
وناقض قوله هذا ما شرح به الأنهار قبله بنحو من خمسة أسطر قال : والأنهار المياه في مجاريها المتطاولة الواسعة ، انتهى كلامه. والألف واللام في الأنهار للجنس ، قال الزمخشري : أو يراد أنهارها ، فعوض التعريف باللام من تعريف الإضافة ، كقوله تعالى : (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) (٣) ، وهذا الذي ذكره الزمخشري ، وهو أن الألف واللام تكون عوضا من الإضافة ، ليس مذهب البصريين ، بل شيء ذهب إليه الكوفيون ، وعليه خرج
__________________
(١) سورة محمد : ٤٧ / ١٥.
(٢) سورة يوسف : ١٢ / ٨٢.
(٣) سورة مريم : ١٩ / ٤.