البقاء. ومن : في قوله : منها ، هي لابتداء الغاية ، وفي : من ثمرة كذلك ، لأنه بدل من قوله : منها ، أعيد معه حرف كقوله تعالى : (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها) (١) ، على أحد الاحتمالين ، وكلتاهما تتعلق برزقوا على جهة البدل ، كما ذكرناه ، لأن الفعل لا يقضي حرفي جر في معنى واحد إلا بالعطف ، أو على طريقة البدل ، وهذا البدل هو بدل الاشتمال. وقد طول الزمخشري في إعراب قوله : من ثمرة ، ولم يفصح بالبدل ، لكن تمثيله يدل على أنه مراده ، وأجاز أن يكون من ثمرة بيانا على منهاج قولك : رأيت منك أسدا ، تريد أنت أسد ، انتهى كلامه. وكون من للبيان ليس مذهب المحققين من أهل العربية ، بل تأولوا ما استدل به من أثبت ذلك ، ولو فرضنا مجيء من للبيان ، لما صح تقديرها للبيان هنا ، لأن القائلين بأن من للبيان قدروها بمضمر وجعلوه صدرا لموصول صفة ، إن كان قبلها معرفة ، نحو : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) (٢) ، أي الرجس الذي هو الأوثان ، وإن كان قبلها نكرة ، فهو يعود على تلك النكرة نحو : من يضرب من رجل ، أي هو رجل ، ومن هذه ليس قبلها ما يصلح أن يكون بيانا له ، لا نكرة ولا معرفة ، إلا إن كان يتمحل لذلك أنها بيان لما بعدها ، وأن التقدير : كلما رزقوا منها رزقا من ثمرة ، فتكون من مبينة لرزقا ، أي : رزقا هو ثمرة ، فيكون في الكلام تقديم وتأخير. فهذا ينبغي أن ينزه كتاب الله عن مثله. وأما : رأيت منك أسدا ، فمن لابتداء الغاية أو للغاية ابتداء وانتهاء ، نحو : أخذته منك ، ولا يراد بثمرة الشخص الواحد من التفاح أو الرمان أو غير ذلك ، بل المراد ، والله أعلم ، النوع من أنواع الثمار. قال الزمخشري : وعلى هذا ، أي على تقدير أن تكون من بيانا يصح أن يراد بالثمرة النوع من الثمار ، والجنات الواحدة ، انتهى كلامه. وقد اخترنا أن من لا تكون بيانا فلا نختار ما ابتنى عليه ، مع أن قوله : والجنات الواحدة مشكل يحتاج فهمه إلى تأمل ، ورزقا هنا هو المرزوق ، والمصد فيه بعيد جدا لقوله : (هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) ، فإن المصدر لا يؤتى به متشابها ، إنما هذا من الإخبار عن المرزوق لا عن المصدر.
(قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) ، قالوا : هو العامل في كلما ، وهذا الذي : مبتدأ معمول للقول. فالجملة في موضع مفعول ، والمعنى : هذا ، مثل : الذي رزقنا ، فهو من باب أما الخبر شبه به المبتدأ ، وإنما احتيج إلى هذا الإضمار ، لأن الحاضر بين أيديهم في ذلك الوقت يستحيل أن يكون عين الذي تقدم إن رزقوه ، ثم هذه المثلية المقدرة حذفت
__________________
(١) سورة الحج : ٢٢ / ٢٢.
(٢) سورة الحج : ٢٢ / ٣٠.