الله تعالى المثل بالمستوقد والصيب قالوا : الله أعلى وأعظم أن يضرب الأمثال بمثل هذه الأشياء التي لا بال لها ، فرد الله عليهم بهذه الآية ، وقيل نزلت في المشركين ، والكل محتمل ، إذ اشتملت على نقض العهد ، وهو من صفة اليهود ، لأن الخطاب بوفاء العهد إنما هو لبني إسرائيل ، وعلى الكافرين (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) (١) ، وهم المشركون والمنافقون ، وكلهم كانوا في إيذائه صلىاللهعليهوسلم متوافقين. وقد نص من أول السورة إلى هنا ذكر ثلاث طوائف ، وكلهم من الذين كفروا ، قاله القفال ، قال : ويجوز أن ينزل ذلك ابتداء من غير سبب. وقال الربيع بن أنس : هذا مثل ضربه الله تعالى للدنيا وأهلها ، وأن البعوضة تحيا ما جاعت ، فإذا شبعت وامتلأت ماتت. كذلك مثل أهل الدنيا إذا امتلأوا منها كان سببا لهلاكهم ، وقيل : ضرب ذلك تعالى مثلا لأعمال العباد أنه لا يمتنع أن يذكر ما قل منها أو كثير ليجازي عليها ثوابا أو عقابا ، وإلا ظهر في سبب النزول القولان الأولان. ومناسبة هذه الآية ظاهرة ، إذ قد جرى قبل ذكر المثل بالمستوقد والصيب ، ونزل التمثيل بالعنكبوت والذباب ، فأنكر ذلك الجهلة وأهل العناد ، واستغربوا ما ليس بمستغرب ولا منكر ، إذ التمثيل يكشف المعنى ويوضح المطلوب. وقد تقدم الكلام في فائدته عند قوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) (٢) ، والعاقل إذا سمع التمثيل استبان له به الحق ، وما زال الناس يضربون الأمثال بالبهائم والطيور والأجناس والحشرات والهوام ، ولسان العرب ملآن من ذلك ، ألا ترى إلى قول الشاعر :
وإني لألقى من ذوي الضغن منهم |
|
وما أصبحت تشكو من الوجد ساهره |
كما لقيت ذات الصفا من حليفها |
|
وما انفكت الأمثال في الناس سائره |
فذكر قصة ذات الصفا ، وهي حية كانت قد قتلت قرابة حليفها ، فتواثقا بالله على أنها تدي ذلك القتيل ولا تؤذيها ، إلى آخر القصة المذكورة في ذلك الشعر. والأمثال مضروبة في الإنجيل بالأشياء الحقيرة كالنخالة والدود والزنابير. وكذلك أيضا قرأت أمثالا في الزبور. فإنكار ضرب الأمثال جهالة مفرطة أو مكابرة واضحة ، ومساق هذه الجملة مصدرة بأن يدل على التوكيد.
وقرأ الجمهور : يستحيي بياءين ، والماضي : استحيا ، وهي لغة أهل الحجاز ، واستفعل هنا جاء للإغناء عن الثلاثي المجرد : كاستنكف ، واستأثر ، واستبد ، واستعبر ،
__________________
(١) سورة الأحزاب : ٣٣ / ١٢.
(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٧.