وقيل : يضل بمعنى يعذب ، كقوله تعالى : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) (١) ، قاله بعض المعتزلة ، وردّ القفال هذا وقال : بل المراد في الشاهد في ضلال عن الحق وجوز ابن عطية أن يكون قوله : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً) من كلام الكفار ، ويكون قوله : (وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) إلى آخر الآية ، من كلام الله تعالى. وهذا الذي جوزه ليس بظاهر لأنه إلباس في التركيب ، لأن الكلام إما أن يجري على أنه من كلام الكفار ، أو يجرى على أنه من كلام الله. وأما أن يجري بعضه على أنه من كلام الكفار وبعضه من كلام الله تعالى من غير دليل على ذلك فإنه يكون إلباسا في التركيب ، وكتاب الله منزه عنه.
وقرأ زيد بن علي : يضلّ به كثير ويهدي به كثير وما يضل به إلا الفاسقون ، في الثلاثة على البناء للمفعول. وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة ، في الثلاثة على البناء للفاعل الظاهر ، مفتوح حرف المضارعة. قال عثمان بن سعيد الصيرفي : هذه قراءة القدرية. وروي عن ابن مسعود أنه قرأ : يضلّ بضمّ الياء في الأول ، وما يضلّ به بفتح الياء ، والفاسقون بالواو ، وكذا أيضا في القراءتين السابقتين ، وهي قراءات متجهة إلى أنها مخالفة للمصحف المجمع عليه. والظاهر أن الضمير في به في الثلاثة عائد على مثلا ، وهو على حذف المضاف ، أي يضرب المثل. وقيل : الضمير في به من قوله : (يُضِلُّ بِهِ) ، أي بالتكذيب في به من قوله : (وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) ، أي بالتصديق. ودلّ على ذلك قوة الكلام في قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ).
ومعنى : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) ، أي : وما يكون ذلك سببا للضلالة إلا عند من خرج عن الحق. وقال بعض أهل العلم : معنى يضلّ ويهدي : الزيادة في الضلال والهدى ، لا أن ضرب المثل سبب للضلالة والهدى ، فعلى هذا يكون التقدير : نزيد من لم يصدق به وكفر ضلالا على ضلاله ، ومن آمن به وصدق إيمانا على إيمانه. والفاسقين : مفعول يضلّ لأنه استثناء مفرغ ، ومنع أبو البقاء أن يكون منصوبا على الاستثناء. ويكون مفعول يضل محذوفا تقديره : وما يضل به أحدا إلا الفاسقين ، وليس بممتنع ، وذلك أن الاسم بعد إلا : إما أن يفرغ له العامل ، فيكون على حسب العامل نحو : ما قام إلا زيد ، وما ضربت إلا زيدا ، وما مررت إلا بزيد ، إذا جعلت زيدا وبزيد معمولا للعامل قبل لا ، أو لا يفرغ. وإذا لم يفرغ ، فأما أن يكون العامل طالبا مرفوعا ، فلا يجوز إلا ذكره قبل إلا ، وإضماره إن كان مما يضمر ، أو منصوبا ، أو مجرورا ، فيجوز حذفه لأنه فضلة وإثباته. فإن حذفته كان الاسم
__________________
(١) سورة القمر : ٥٤ / ٤٧.