نسله فيها ليكلفهم ويرتب على ذلك ثوابهم وعقابهم في جنة ونار. وكانت تلك الأكلة سبب هبوطه ، والله يفعل ما يشاء. وأمره بالهبوط إلى الأرض بعد أن تاب عليه لقوله ثانية : (قُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) ، إن كان المخاطبون آدم وحواء وذريتهما ، كما قال مجاهد ، فالمراد ما عليه الناس من التعادي وتضليل بعضهم لبعض ، والبعضية موجودة في ذريتهما ، لأنه ليس كلهم يعادي كلهم ، بل البعض يعادي البعض. وإن كان معهما إبليس أو الحية ، كما قاله مقاتل ، فليس بعض ذريتهما يعادي ذرية آدم ، بل كلهم أعداء لكل بني آدم. ولكن بتحقق هذا بأن جعل المأمورون بالهبوط شيئا واحدا وجزّؤوا أجزاء ، فكل جزء منها جزء من الذين هبطوا ، والجزء يطلق عليه البعض فيكون التقدير : كل جنس منكم معاد للجنس المباين له.
وقال الزجاج : إبليس عدوّ للمؤمنين وهم أعداؤه. وقيل معناه : عداوة نفس الإنسان له وجوارحه ، وهذا فيه بعد ، وهذه الجملة في موضع الحال ، أي اهبطوا متعادين ، والعامل فيها اهبطوا. فصاحب الحال الضمير في اهبطوا ، ولم يحتج إلى الواو لإغناء الرابط عنها ، واجتماع الواو والضمير في الجملة الاسمية الواقعة حالا أكثر من انفراد الضمير. وفي كتاب الله تعالى : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) (١) ، وليس مجيئها بالضمير دون الواو شاذا ، خلافا للفراء ومن وافقه كالزمخشري. وقد روى سيبويه عن العرب كلمته : فوه إلى فيّ ، ورجع عوده على بدئه ، وخرجه على وجهين : أحدهما : أن عوده مبتدأ وعلى بدئه خبر ، والجملة حال ، وهو كثير في لسان العرب ، نظمها ونثرها ، فلا يكون ذلك شاذا. وأجاز مكي بن أبي طالب أن تكون الجملة مستأنفة إخبارا من الله تعالى بأن بعضهم لبعض عدوّ ، فلا يكون في موضع الحال ، وكأنه فر من الحال ، لأنه تخيل أنه يلزم من القيد في الأمر أن يكون مأمورا به ، أو كالمأمور. ألا ترى أنك إذا قلت قم ضاحكا كان المعنى الأمر بإيقاع القيام مصحوبا بالحال فيكون مأمورا بها أو كالمأمور ، لأنك لم تسوّغ له القيام إلا في حال الضحك وما يتوصل إلى فعل المأمور إلا به مأمور به؟ والله تعالى لا يأمر بالعداوة ولا يلزم ما يتخيل من ذلك ، لأن الفعل إذا كان مأمورا به من يسند إليه في حال من أحواله ، لم تكن تلك الحال مأمورا بها ، لأن النسبة الحالية هي لنسبة تقييدية لا نسبة إسنادية. فلو كانت مأمورا بها إذا كان العامل فيها امرا ، فلا يسوغ ذلك هنا ، لأن الفعل المأمور به إذا كان لا يقع في الوجود إلا بذلك القيد ، ولا يمكن خلافه ، لم يكن ذلك
__________________
(١) سورة الزمر : ٣٩ / ٦٠.