ولما كان أمرا بالهبوط من الجنة إلى الأرض ، وكان في ذلك انحطاط رتبة المأمور ، لم يؤنسه بالنداء ، ولا أقبل عليه بتنويهه بذكر اسمه. والإقبال عليه بالنداء بخلاف قوله : (وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ) ، والمخاطب بالأمر آدم وحوّاء والحية ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، أو هؤلاء وإبليس ، قاله السدي عن ابن عباس ، أو آدم وإبليس ، قاله مجاهد ، أو هما وحواء ، قاله مقاتل ، أو آدم وحواء فحسب. ويكون الخطاب بلفظ الجمع وإن وقع على التثنية نحو : (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ) (١) ، ذكره ابن الأنباري ، أو آدم وحواء والوسوسة ، قاله الحسن ، أو آدم وحواء وذريتهما ، قاله الفراء ، أو آدم وحواء ، والمراد هما وذريتهما ، ورجحه الزمخشري قال : لأنهما لما كانا أصل الإنس ومتشعبهم جعلا كأنهما الإنس كلهم. والدليل عليه قوله : (قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) (٢) ، ويدل على ذلك قوله : (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ) الآية ، وما هو إلا حكم يعم الناس كلهم ، انتهى. وفي قول الفراء خطاب من لم يوجد بعد ، لأن ذريتهما كانت إذ ذاك غير موجودة. وفي قول من أدخل إبليس معهما في الأمر ضعف ، لأنه كان خرج قبلهما ، ويجوز على ضرب من التجوز. قال كعب ووهب : أهبطوا جملة ونزلوا في بلاد متفرقة. وقال مقاتل : أهبطوا متفرقين ، فهبط إبليس ، قيل بالأبلة ، وحواء بجدّة ، وآدم بالهند ، وقيل : بسرنديب بجبل يقال له : واسم. وقيل : كان غذاؤه جوز الهند ، وكان السحاب يمسح رأسه فأورث ولده الصلع. وهذا لا يصح إذ لو كان كذلك لكان أولاده كلهم صلعا.
وروي عن ابن عباس : أن الحية أهبطت بنصيبين. وروى الثعلبي : بأصبهان ، والمسعودي : بسجستان ، وهي أكثر بلاد الله حيات. وقيل : ببيسان. وقيل : كان هذا الهبوط الأول من الجنة إلى سماء الدنيا. وقيل : لما نزل آدم بسرنديب من الهند ومعه ريح الجنة ، علق بشجرها وأوديتها ، فامتلأ ما هناك طيبا ، فمن ثم يؤتى بالطيب من ريح آدم عليهالسلام. وذكر أبو الفرج بن الجوزي في إخراجه كيفية ضربنا صفحا عن ذكرها ، قال : وأدخل آدم في الجنة ضحوة ، وأخرج منها بين الصلاتين ، فمكث فيها نصف يوم ، والنصف خمسمائة عام ، مما يعد أهل الدنيا ، والأشبه أن قوله : اهبطوا أمر تكليف ، لأن فيه مشقة شديدة بسبب ما كانا فيه من الجنة ، إلى مكان لا تحصل فيه المعيشة إلا بالمشقة ، وهذا يبطل قول من ظن أن ذلك عقوبة ، لأن التشديد في التكليف يكون بسبب الثواب. فكيف يكون عقابا مع ما في هبوطه وسكناه الأرض من ظهور حكمته الأزلية في ذلك ، وهي نشر
__________________
(١) سورة الأنبياء : ٢١ / ٧٨.
(٢) سورة طه : ٢٠ / ١٢٣.