لا يجوز أن يقع العفو عن ذلك ، فقيل في ذلك : (فَارْهَبُونِ) ، وقيل في هذا : (فَاتَّقُونِ) ، أي اتخذوا وقاية من عذاب الله إن لم تمتثلوا ما أمرتكم به. والأحسن أن لا يقيد ارهبون واتّقون بشيء ، بل ذلك أمر بخوف الله واتقائه ، ولكن يدخل فيه ما سيق الأمر عقيبه دخولا واضحا ، فكان المعنى : ارهبون ، إن لم تذكروا نعمتي ولم توفوا بعهدي ، واتقون ، إن لم تؤمنوا بما أنزلت وإن اشتريتم بآياتي ثمنا قليلا.
(وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ) : أي الصدق بالكذب ، قاله ابن عباس ، أو اليهودية والنصرانية بالإسلام ، قاله مجاهد ، أو التوراة بما كتبوه بأيديهم فيها من غيرها ، أو بما بدلوا فيها من ذكر محمد صلىاللهعليهوسلم ، قاله ابن زيد ، أو الأمانة بالخيانة لأنهم ائتمنوا على إبداء ما في التوراة ، فخانوا في ذلك بكتمانه وتبديله ، أو الإقرار بنبوّة محمد صلىاللهعليهوسلم إلى غيرهم وجحدهم أنه ما بعث إليهم ، قاله أبو العالية ، أو إيمان منافقي اليهود بإبطان كفرهم ، أو صفة النبي صلىاللهعليهوسلم بصفة الدجال. وظاهر هذا التركيب أن الباء في قوله بالباطل للإلصاق ، كقولك : خلطت الماء باللبن ، فكأنهم نهوا عن أن يخلطوا الحق بالباطل ، فلا يتيمز الحق من الباطل ، وجوز الزمخشري أن تكون الباء للاستعانة ، كهي في كتبت بالقلم ، قال : كان المعنى : ولا تجعلوا الحق ملتبسا مشتبها بباطلكم ، وهذا فيه بعد عن هذا التركيب ، وصرف عن الظاهر بغير ضرورة تدعو إلى ذلك.
(وَتَكْتُمُوا الْحَقَ) : مجزوم عطفا على تلبسوا ، والمعنى : النهي عن كل واحد من الفعلين ، كما قالوا : لا تأكل السمك وتشرب اللبن ، بالجزم نهيا عن كل واحد من الفعلين ، وجوزوا أن يكون منصوبا على إضمار أن ، وهو عند البصريين عطف على مصدر متوهم ، ويسمى عند الكوفيين النصب على الصرف. والجرمي يرى أن النصب بنفس الواو ، وهذا مذكور في علم النحو. وما جوزوه ليس بظاهر ، لأنه إذ ذاك يكون النهي منسحبا على الجمع بين الفعلين ، كما إذا قلت : لا تأكل السمك وتشرب اللبن ، معناه : النهي عن الجمع بينهما ، ويكون بالمفهوم يدل على جواز الالتباس بواحد منهما ، وذلك منهي عنه ، فلذلك رجح الجزم.
وقرأ عبد الله : (وَتَكْتُمُونَ الْحَقَ) ، وخرج على أنها جملة في موضع الحال ، وقدره الزمخشري : كاتمين ، وهو تقدير معنى لا تقدير إعراب ، لأن الجملة المثبتة المصدّرة بمضارع ، إذا وقعت حالا لا تدخل عليها الواو ، والتقدير الإعرابي هو أن تضمر قبل