إذ المقصود أن من كان من أهل العلم والاطلاع على ما جاءت به الرسل ، لا يصلح له لبس الحق بالباطل ولا كتمانه. وهذه الحال ، وإن كان ظاهرها أنها قيد في النهي عن اللبس والكتم ، فلا تدل بمفهومها على جواز اللبس والكتم حالة الجهل ، لأن الجاهل بحال الشيء لا يدري كونه حقا أو باطلا ، وإنما فائدتها : أن الإقدام على الأشياء القبيحة مع العلم بها أفحش من الإقدام عليها مع الجهل بها. وقال القشيري : لا تتوهموا ، إن يلتئم لكم جمع الضدّين والكون في حالة واحدة في محلين ، فإما مبسوطة بحق ، وإما مربوطة بحط ، (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ) ، تدليس ، (وَتَكْتُمُوا الْحَقَ) تلبيس ، (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أن حق الحق تقديس ، انتهى. وفي هذه الآية دليل أن العالم بالحق يجب عليه إظهاره ، ويحرم عليه كتمانه.
(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) : تقدّم الكلام على مثل هذا في أوّل السورة في قوله : (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) (١) ، ويعني بذلك صلاة المسلمين وزكاتهم ، فقيل : هي الصلاة المفروضة ، وقيل : جنس الصلاة والزكاة. قيل : أراد المفروضة ، وقيل : صدقة الفطر ، وهو خطاب لليهود ، فدل ذلك على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة. قال القشيري : وأقيموا الصلاة : احفظوا أدب الحضرة ، فحفظ الأدب للخدمة من الخدمة ، وآتوا الزكاة ، زكاة الهمم ، كما تؤدى زكاة النعم ، قال قائلهم :
كلّ شيء له زكاة تؤدّى |
|
وزكاة الجمال رحمة مثلي. |
(وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) : خطاب لليهود ، ويحتمل أن يراد بالركوع : الانقياد والخضوع ، ويحتمل أن يراد به : الركوع المعروف في الصلاة ، وأمروا بذلك وإن كان الركوع مندرجا في الصلاة التي أمروا بإقامتها ، لأنه ركوع في صلاتهم ، فنبه بالأمر به ، على أن ذلك مطلوب في صلاة المسلمين. وقيل : كنى بالركوع عن الصلاة : أي وصلوا مع المصلين ، كما يكنى عنها بالسجدة تسمية للكلّ بالجزء ، ويكون في قوله مع دلالة على إيقاعها في جماعة ، لأن الأمر بإقامة الصلاة أوّلا لم يكن فيها إيقاعها في جماعة. والراكعون : قيل النبي صلىاللهعليهوسلم وأصحابه ، وقيل : أراد الجنس من الراكعين.
وفي هذه الجمل ، وإن كانت معطوفات بالواو التي لا تقتضي في الوضع ترتيبا ترتيب
__________________
(١) سورة التوبة : ٩ / ٧١.