الترك ، فكأنه لا يجري لهم على بال ، وعلق النساء بالأنفس توكيدا للمبالغة في الغفلة المفرطة.
(وَتَنْسَوْنَ) : معطوف على تأمرون ، والمنعي عليهم جمعهم بين هاتين الحالتين من أمر الناس بالبر الذي في فعله النجاة الأبدية ، وترك فعله حتى صار نسيا منسيا بالنسبة إليهم. (أَنْفُسَكُمْ) ، والأنفس هنا : ذواتهم ، وقيل : جماعتهم وأهل ملتهم ، ثم قيد وقوع ذلك منهم بقوله : (وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ) : أي أنكم مباشرو الكتاب وقارئوه ، وعالمون بما انطوى عليه ، فكيف امتثلتموه بالنسبة إلى غيركم؟ وخالفتموه أنفسكم؟ كقوله تعالى : (وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (١). والجملة حالية ولا يخفى ما في تصديرها بقوله : (وَأَنْتُمْ) ، من التبكيت لهم والتقريع والتوبيخ لأجل المخاطبة بخلافها لو كانت اسما مفردا. والكتاب هنا : التوراة والإنجيل ، وفيهما النهي عن هذا الوصف الذميم ، وهذا قول الجمهور. وقيل : الكتاب هنا القرآن ، قالوا : ويكون قد انصرف من خطاب أهل الكتاب إلى خطاب المؤمنين ، ويكون ذلك من تلوين الخطاب ، مثل قوله تعالى : (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ) (٢) ، وفي هذا القول بعد ، إذ الظاهر أن هذا كله خطاب مع أهل الكتاب.
(أَفَلا تَعْقِلُونَ) : مذهب سيبويه والنحويين : أن أصل الكلام كان تقديم حرف العطف على الهمزة في مثل هذا ومثل (أَوَلَمْ يَسِيرُوا) أثم إذا ما وقع ، لكن لما كانت الهمزة لها صدر الكلام ، قدمت على حرف العطف ، وذلك بخلاف هل. وزعم الزمخشري أن الواو والفاء وثم بعد الهمزة واقعة موقعها ، ولا تقديم ولا تأخير ، ويجعل بين الهمزة وحرف العطف جملة مقدرة يصح العطف عليها ، وكأنه رأى أن الحذف أولى من التقديم والتأخير. وقد رجع عن هذا القول في بعض تصانيفه إلى قول الجماعة ، وقد تكلمنا على هذه المسألة في شرحنا لكتاب التسهيل. فعلى قول الجماعة يكون التقدير : فألا تعقلون ، وعلى قول الزمخشري يكون التقدير : أتعقلون فلا تعقلون ، أمكثوا فلم يسيروا في الأرض ، أو ما كان شبه هذا الفعل مما يصح أن يعطف عليه الجملة التي بعد حرف العطف ، ونبههم بقوله : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) ، على أن فيهم إدراكا شريفا يمنعهم من قبيح ما ارتكبوه من أمر غيرهم بالخير ونسيان أنفسهم عنه ، وإن هذه حالة من سلب العقل ، إذ العاقل ساع في
__________________
(١) سورة البقرة : ٢ / ٤٢.
(٢) سورة يوسف : ١٢ / ٢٩.