الحق والباطل : استفت قلبك ، اتقوا فراسة المؤمن. المؤمن ينظر بنور الله (إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) (١) ، وذلك الفرقان ما قدموه من الإحسان ، انتهى كلامه. وناسب ترجي الهداية إثر ذكر إتيان موسى الكتاب والفرقان ، لأن الكتاب به تحصل الهداية (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ) (٢) ، (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً) (٣) ، (وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ) (٤). وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة من ذكر الامتنان على بني إسرائيل فصولا منها : فرق البحر بهم على الوجه الذي ذكر من كونه صار اثني عشر مسلكا على عدد الأسباط وبين كل سبط حاجز يمنعهم من الازدحام دون أن يلحقهم في ذلك استيحاش ، لأنه صار في كل حاجز كوى بحيث ينظر بعضهم إلى بعض على ما نقل ، وهو من أعظم الآيات الدالة على صدق موسى على نبينا وعليهالسلام ، وهذا الفرق هو النعمة الثالثة ، لأن الأولى هي التفضيل ، والثانية هي الإنجاء من آل فرعون ، والثالثة هي هذا الفرق وما ترتب عليه من إنجائهم من الغرق وإغراق أعدائهم وهم ينظرون بحيث لا يشكون في هلاكهم. ثم استطرد بعد ذلك إلى ذكر النعمة الرابعة ، وهي العفو عن الذنب العظيم الذي ارتكبوه من عبادة العجل ، فذكر سبب ذلك ، وأنه اتفق ذلك لغيبة موسى عنهم لمناجاة ربه ، وأنهم على قصر مدة غيبته انخدعوا بما فعله السامري هذا ، ولم يطل عليهم الأمد ، وخليفة موسى فيهم أخوه هارون ينهاهم فلا ينتهون ، ومع هذه الزلة العظيمة عفا عنهم وتاب عليهم ، فأي نعمة أعظم من هذه؟ ثم ذكر النعمة الخامسة ، وهي ثمرة الوعد ، وهو إتيان موسى التوراة التي بها هدايتهم ، وفيها مصالح دنياهم وآخرتهم. وجاء ترتيب هذه النعم متناسقا يأخذ بعضه بعنق بعض ، وهو ترتيب زماني ، وهو أحد الترتيبات الخمس التي مر ذكرها في هذا الكتاب ، لأن التفضيل أمر حكمي ، فهو أول ثم وقعت النعم بعده ، وهي أفعال يتلو بعضها بعضا. فأولها الإنجاء من سوء العذاب ، ذبح الأبناء واستحياء النساء بإخراج موسى إياهم من مصر ، بحيث لم يكن لفرعون ولا لقومه عليهم تسليط بعد هذا الخروج ، والإنجاء ، ثم فرق البحر بهم وإرائهم عيانا هذا الخارق العظيم ، ثم وعد الله لموسى بمناجاته وذهابه إلى ذلك ، ثم اتخاذهم العجل ، ثم العفو عنهم ، ثم إيتاء موسى التوراة. فانظر إلى حسن هذه الفصول التي انتظمت انتظام الدرّ في أسلاكها ، والزهر في أفلاكها ، كل فصل منها قد ختم
__________________
(١) سورة الأنفال : ٨ / ٢٩.
(٢) سورة المائدة : ٥ / ٤٤.
(٣) سورة البقرة : ٢ / ٢.
(٤) سورة المائدة : ٥ / ٤٦.