أنفسهم ، وأول قدم في القصد إلى الله الخروج عن النفس توهم الناس أن توبة بني إسرائيل كانت أشق ، ولا كما توهموا ، فإن ذلك كان مقاساة القتل مرة ، وأما أهل الخصوص ففي كل لحظة قتل ، قال الشاعر :
ليس من مات فاستراح بميت |
|
إنما الميت ميت الأحياء |
(ذلِكُمْ) : إشارة إلى المصدر المفهوم من قوله : فاقتلوا ، لأنه أقرب مذكور ، أي القتل : (خَيْرٌ لَكُمْ) وقال بعضهم : هو إشارة إلى المصدرين المفهومين من قوله : فتوبوا واقتلوا ، فأوقع المفرد موقع التثنية ، أي فالتوبة والقتل خير لكم ، فيكون مثل قولهم في قوله تعالى : (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) (١) أي بين ذينك أي الفارض والبكر ، وكذلك قوله :
إن للخير وللشر مدى |
|
وكلا ذلك وجه وقبل |
أي : وكلا ذينك ، وهذا ينبني على ما قدمناه من أن قوله : فاقتلوا ، هل هو تفسير للتوبة؟ فتكون التوبة هي القتل. فينبغي أن يكون ذلكم مفردا أشير به إلى مفرد ، وهو القتل ، أو يكون القتل مغايرا للتوبة ، فيحتمل هذا الذي قاله هذا القائل ، ولكن الأرجح خير ، إن كانت للتفضيل فقيل : المعنى خير من العصيان والإصرار على الذنب. وقيل : خير من ثمرة العصيان ، وهو الهلاك الذي لهم ، إذ الهلاك المتناهي خير من الهلاك غير المتناهي ، إذ الموت لا بد منه ، فليس فيه إلا التقديم والتأخير. وكلا هذين التوجيهين ليس التفضيل على بابه ، إذ العصيان والهلاك غير المتناهي لا خير فيه ، فيوصف غيره بأنه أزيد في الخيرية عليه ، ولكن يكون على حد قولهم : العسل أحلى من الخل. ويحتمل أن لا يكون للتفضيل بل أريد به خير من الخيور. لكم : متعلق بخير إن كان للتفضيل ، وإن كانت على أنها خير من الخيور فيتعلق بمحذوف ، أي خير كائن لكم. والتخريجان يجريان في نصب قوله : (عِنْدَ بارِئِكُمْ). والعندية هنا مجاز ، إذ هي ظرف مكان وتجوّز به عن معنى حصول ثوابهم من الله تعالى. وكرر البارئ باللفظ الظاهر توكيدا ، ولأنها جملة مستقلة فناسب الإظهار ، وللتنبيه على أن هذا الفعل هو راجح عند الذي أنشأكم ، فكما رأى أن إنشاءكم راجح ، رأى أن إعدامكم بهذا الطريق من القتل راجح ، فينبغي التسليم له في كل حال ، وتلقي ما يرد من قبله بالقبول والامتثال.
__________________
(١) سورة البقرة : ٢ / ٦٨.