في الأشياء الحظر ، أو دوموا على الأكل على قول من قال الأصل فيها الإباحة ، وهاهنا قول محذوف ، أي وقلنا : كلوا ، والقول يحذف كثيرا ويبقى المقول ، وذلك لفهم المعنى ، ومنه : أكفرتم؟ أي فيقال : أكفرتم؟ وحذف المقول وإبقاء القول قليل ، وذلك أيضا لفهم المعنى ، قال الشاعر :
لنحن الألى قلتم فإني ملئتم |
|
برؤيتنا قبل اهتمام بكم رعبا |
التقدير : قلتم نقاتلهم. (مِنْ طَيِّباتِ) : من : للتبعيض لأن المن والسلوى بعض الطيبات ، وأبعد من ذهب إلى أنها زائدة ، ولا يتخرج ذلك إلا على قول الأخفش ، وأبعد من هذا قول من زعم أنها للجنس ، لأن التي للجنس في إثباتها خلاف ، ولا بد أن يكون قبلها ما يصلح أن يقدر بعده موصول يكون صفة له. وقول من زعم أنها للبدل ، إذ هو معنى مختلف في إثباته ، ولم يدع إليه هنا ما يرجح ذلك. والطيبات هنا قيل : الحلال ، وقيل : اللذيذ المشتهى. ومن زعم أن هذا على حذف مضاف ، وهو كلوا من عوض طيبات ما رزقناكم ، فقوله ضعيف ، عوضهم عن جميع مآكلهم المستلذة بالمن والسلوى ، فكانا بدلا من الطيبات. وقد استنبط بعضهم من قوله : (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) أنه لا يكفي وضع المالك الطعام بين يدي الإنسان في إباحة الأكل ، بل لا يجوز التصرف فيه إلا بإذن المالك ، وهو قول. وقيل : يملك بالوضع فقط ، وقيل : بالأخذ والتناول ، وقيل : لا يملك بحال ، بل ينتفع به وهو على ملك المالك. وما في قوله : (ما رَزَقْناكُمْ) موصولة ، والعائد محذوف ، أي ما رزقناكموه ، وشروط الحذف فيه موجودة ، ولا يبعد أن يجوز مجوّز فيها أن تكون مصدرية ، فلا يحتاج إلى تقدير ضمير ، ويكون يطلق المصدر على المفعول ، والأول أسبق إلى الذهن.
(وَما ظَلَمُونا) نفى أنهم لم يقع منهم ظلم لله تعالى ، وفي هذا دليل على أنه ليس من شرط نفي الشيء عن الشيء إمكان وقوعه ، لأن ظلم الإنسان لله تعالى لا يمكن وقوعه البتة. قيل : المعنى وما ظلمونا بقولهم : (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) ، بل ظلموا أنفسهم بما قابلناهم به من الصاعقة. وقيل : وما ظلمونا بادخارهم المن والسلوى ، بل ظلموا أنفسهم بفساد طعامهم وتقليص أرزاقهم. وقيل : وما ظلمونا بإبائهم على موسى أن يدخلوا قرية الجبارين. وقيل : وما ظلمونا باستحبابهم العذاب وقطعهم مادّة الرزق عنهم ، بل ظلموا أنفسهم بذلك. وقيل : وما ظلمونا بكفر النعم ، بل ظلموا أنفسهم بحلول النقم. وقيل : وما ظلمونا بعبادة العجل ، بل ظلموا أنفسهم بقتل بعضهم بعضا.