كلامه. وكلا القولين ، أعني قول المهدوي وابن عطية ، مخالف لظاهر القرآن ، لأن أبدأ ظاهره أن يستغرق مدة أعمارهم ، كما بيناه. وهل امتناعهم من تمني الموت ، كان لعلمهم أن كل نبي عرض على قومه أمرا وتوعدهم عليه بالهلاك فردوه تكذيبا له ، فإن ما توعدهم به واقع لا محالة؟ أو لعلمهم بصدق رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وأنه لا يقول على الله إلا الحق؟ أو لصرف الله إياهم عن ذلك ، كما قيل في عدم معارضة القرآن بالصرفة؟ أقوال ثلاثة. والظاهر أن ذلك معلل (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ). والذي قدمته أيديهم : تكذيبهم الأنبياء ، وقتلهم إياهم ، وقولهم : (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) (١) ، وقولهم : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً) (٢) ، وقولهم : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ) (٣) ، واعتداؤهم في السبت ، وسائر الكبائر التي لم تصدر من أمة قبلهم ولا بعدهم. وهذا التمني الذي طلب منهم ، ونفي عنهم ، لم يقع أصلا منهم ، إذ لو وقع لنقل ، ولتوفرت دواعي المخالفين للإسلام على نقله.
وقد تقدّمت الأقوال في تفسير التمني ، والظاهر أنه لا يعني به هنا العمل القلبي ، لأنه لا يطلع عليه ، فلا يتحدى به ، وإنما عنى به القول اللساني كقولك : ليت الأمر يكون. ألا ترى أنه يقال لقائل ذلك : تمني؟ وتسمى ليت كلمة تمنّ ، ولم ينقل أيضا أنهم قالوا : تمنينا ذلك بقلوبنا ، ولا جائز أن يكون امتناعهم من الإخبار أنهم تمنوا بقلوبهم ، كونهم لا يصدّقون في ذلك ، لأنهم قد قاولوا المسلمين بأشياء لا يصدقونهم فيها ، من الافتراء على الله ، وتحريف كتابه ، وغير ذلك. وقال الماتريدي ما ملخصه : أن المؤمن يقول : إن الجنة له ، ومع ذلك ليس يتمنى الموت. وأجاب : بأنه لم يجعل لنفسه من المنزلة عند الله من ادعاء بنوّة ومحبة من الله لهم ما جعلته اليهود ، لأن جميع المؤمنين ، غير الأنبياء ، لا يزول عنهم خوف الخاتمة. والخاطئ منهم مفتقر إلى زمان يتدارك فيه تكفير خطئه. فلذلك لم يتمن المؤمنون الموت. ولذلك كان المبشرون بالجنة يتمنونه. وذكروا في ما من قوله : (بِما قَدَّمَتْ) ، أنها تكون مصدرية ، والظاهر أنها موصول ، والعائد محذوف ، وهي كناية عما اجترحوه من المعاصي السابقة. ونسب التقديم لليد مجازا ، والمعنى بما قدّموه ، إذ كانت اليد أكثر الجوارح تصرفا في الخير والشر. وكثر هذا الاستعمال في القرآن : (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ) (٤) ، (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) (٥) ، (فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) (٦). وقيل :
__________________
(١) سورة النساء : ٤ / ١٥٣.
(٢) سورة الأعراف : ٧ / ١٣٨.
(٣) سورة الماء : ٥ / ٢٤.
(٤) سورة الحج : ٢٢ / ١٠.
(٥) سورة الأنفال : ٨ / ٥١.
(٦) سورة الشورى : ٤٢ / ٣٠.