أحرص الناس عام ، ويكون في ذلك أعظم توبيخ لليهود ، إذ هم أهل كتاب يرجون ثوابا ويخافون عقابا ، وهم مع ذلك أحرص ممن لا يرجو ذلك ولا يؤمن ببعث. وإنما كان حرصهم أبلغ لعلمهم بأنهم صائرون إلى العقاب ، فكانوا أحب الناس في البعد منه ، لأن من توقع شرا كان أنفر الناس عنه ، فلما كانت الحياة سببا في تباعد العقاب ، كانوا أحرص الناس عليها. وعلى هذا الذي تقرّر من اتصال ، ومن الذين أشركوا بأفعل التفضيل ، فلا بد من ذكر من ، لأن أحرص الناس جرى على اليهود ، فلو عطفت بغير من لكان معطوفا على الناس ، فيكون في المعنى : ولتجدنهم أحرص الذين أشركوا ، فكان أفعل يضاف إلى غير ما اندرج تحته ، لأن اليهود ليسوا من المشركين ، أعني المشركين الذين فسر بهم الذين أشركوا هنا ، لا إذا قلنا : إن الثواني في العطف يجوز فيها ما لا يجوز في الأوائل ، فإنه يصح ذلك. وأما قول من زعم أن قوله : (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) معطوفا على الضمير في قوله : ولتجدنهم ، أي ولتجدنهم وطائفة من الذين أشركوا أحرص الناس على حياة ، فيكون في الكلام تقديم وتأخير. فهو معنى يصح ، لكن اللفظ والتركيب ينبو عنه ويخرجه عن الفصاحة ، ولا ضرورة تدعو إلى أن يكون ذلك من باب التقديم والتأخير ، لا سيما على قول من يخص التقديم والتأخير بالضرورة.
وهذا البحث كله على تقدير أن تكون الواو في : (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) لعطف مفرد على مفرد ، وأما إذا كانت لعطف الجمل ، فيكون إذ ذاك منقطعا من الدخول تحت أفعل التفضيل ، ويكون ابتداء ، إخبار عن قوم من المشركين يودون طول الحياة أيضا. وتقدّم أن المعنيّ بالذين أشركوا : أهم المجوس؟ أم مشركو العرب؟ أم قوم من المشركين في الوجه الأول؟ وأما على أن يكون استئناف إخبار ، فقال ابن عطية : هم المجوس ، لأن تشميتهم للعاطس بلغتهم معناه : عش ألف سنة. وفي هذا القول تشبيه لبني إسرائيل بهذه الفرقة من المشركين. انتهى كلامه. قال الزمخشري : والذين أشركوا على هذا ، أي على أنه كلام مبتدأ ، مشار به إلى اليهود ، لأنهم قالوا عزير ابن الله. انتهى كلامه.
فعلى هذا القول ، يكون قد أخبر أن من هذه الطائفة التي اشتدّ حرصها على الحياة من (يَوَدُّ) لو عمر ألف سنة ، فيكون ذلك نهاية في تمني طول الحياة ، ويكون الذين أشركوا من وقوع الظاهر المشعر بالعلية موقع المضمر ، إذ المعنى : ومنهم قوم يود أحدهم ، ويود أحدهم صفة لمبتدأ محذوف ، أي ومن الذين أشركوا قوم يود أحدهم ، وهذا من المواضع