من أنه لا يوجد من الله فعل البتة ، إذ لا بد أن يوجد قبله أفعال ، هي أقاويل لا غاية لها ، وذلك مستحيل. ولا يجوز أن يحمل على المجاز ، إذ ذلك إنما يكون في الجمادات ، ولا يكون فيمن يصح منه القول إلا بدليل. ويقوي ذلك أن المصدر فيه الذي هو قولنا من قوله : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (١) ، وكد بمصدر آخر ، وهو أن نقول ، وأهل العربية مجمعون ، على أنهم إذا أكدوا الفعل بالمصدر كان حقيقة ، ولذلك جاء قوله : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) (٢) ، إذ كان الله تعالى متولي تكليمه. وقد قيل : إن معنى فإنما يقول له كن فيكون بكونه. انتهى كلام المهدوي. وقال في المنتخب : كن فيكون ليس المراد أنه تعالى يقول كن ، فحينئذ يكون ذلك الشيء ، فإن ذلك فاسد من وجوه ، فلا بد من تأويله ، وفيه وجوه : الأول : وهو الأقوى ، أن المراد نفاذ سرعة قدرة الله في تكوين الأشياء ، وإنما يخلقها لا لفكرة ، ونظيره (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) (٣). الثاني : أنها علامة يعقلها الملائكة ، إذا سمعوها علموا أنه أحدث أمرا ، قاله أبو الهذيل. الثالث : أنه جاء للموجودين الذين قال لهم : (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) (٤) ، ومن جرى مجراهم ، وهو قول الأصم. الرابع : أنه أمر للأحياء بالموت ، وللموتى بالحياة ، والكل ضعيف ، والقوي هو الأول. انتهى كلامه.
هذا ما نقلناه من كلام أهل التفسير في الآية. وظاهر الآية يدل على أن الله تعالى إذا أراد إحداث شيء قال له : كن ، تبينه الآية الأخرى : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٥) ، وقوله : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) (٦). لكن دليل العقل صد عن اعتقاد مخاطبة المعدوم ، وصد عن أن يكون الله تعالى محلا للحوادث ، لأن لفظة كن محدثة ، ومن يعقل مدلول اللفظ. وكونه يسبق بعض حروفه بعضا ، لم يدخله شك في حدوثه ، وإذا كان كذلك ، فلا خطاب ولا قول لفظيا ، وإنما ذلك عبارة عن سرعة الإيجاد وعدم اعتياضه ، فهو من مجاز التمثيل ، وكأنه قدر أن المعدوم موجود يقبل الأمر ويمتثله بسرعة ، بحيث لا يتأخر عن امتثال ما أمر به. وقرأ الجمهور : فيكون بالرفع ، ووجه على أنه على الاستئناف ، أي فهو يكون ، وعزى إلى سيبويه. وقال غيره : فيكون عطف على يقول ، واختاره الطبري وقرّره. قال ابن عطية : وهو خطأ من جهة المعنى ، لأنه يقتضي أن القول
__________________
(١) سورة النحل : ١٦ / ٤٠.
(٢) سورة النساء : ٤ / ١٦٤.
(٣) سورة فصلت : ٤١ / ١١.
(٤) سورة البقرة : ٢ / ٦٥.
(٥) سورة النحل : ١٦ / ٤٠.
(٦) سورة القمر : ٥٤ / ٥٠.