كان الموصول اليهود والنصارى ، فنفى عنهم العلم ، لانتفاء ثمرته ، وهو الاتباع له والعمل بمقتضاه. وحذف مفعول العلم هنا اقتصارا ، لأن المقصود إنما هو نفي نسبة العلم إليهم ، لا نفي علمهم بشيء مخصوص ، فكأنه قيل : وقال الذين ليسوا ممن له سجية في العلم لفرط غباوته ، فهي مقالة صدرت ممن لا يتصف بتمييز ولا إدراك. ومعمول القول ، الجملة التحضيضية وهي : (لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ) ؛ كما يكلم الملائكة ، وكما كلم موسى عليهالسلام ، قالوا ذلك على طريقة الاستكبار والعتو ، (أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ) ، أي هلا يكون أحد هذين ، إما التكلم ، وإما إتيان آية؟ قالوا ذلك جحودا لأن يكون ما أتاهم آية واستهانة بها. ولما حكى عنهم نسبة الولد إلى الله تعالى ، أعقب ذلك بمقالة أخرى لهم تدل على تعنتهم وجهلهم بما يجب لله تعالى من التعظيم وعدم الاقتراح على أنبيائه.
(كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ) : تقدم الكلام في إعراب كذلك ، وفي تبيين وقوع من قبلهم صلة للذين في قوله : (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (١) والذين من قبلهم. إن فسر الموصول في الذين لا يعلمون بكفار العرب ، أو مشركي مكة ، فالذين من قبلهم هم الأمم المكذبة من أسلافهم وغيرهم. وإن فسر باليهود أو النصارى ، فالذين من قبلهم أسلافهم ، وانتصاب مثل قولهم على البدل من موضع الكاف. ولا تدل المثلية على التماثل في نفس المقول ، يل يحتمل أن من قبلهم اقترحوا غير ذلك ، وأن المثلية وقعت في اقتراح ما لا يليق سؤاله ، وإن لم تكن نفس تلك المقالة ، إذ المثلية تصدق بهذا المعنى. (تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) : الضمير عائد على (الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) ، و (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ). لما ذكر تماثل المقالات ، وهي صادرة عن الأهواء والقلوب ، ذكر تماثل قلوبهم في العمى والجهل ، كقوله تعالى : (أَتَواصَوْا بِهِ) (٢). قيل : تشابهت قلوبهم في الكفر. وقيل : في القسوة. وقيل : في التعنت والاقتراح. وقيل : في المحال. وقرأ ابن أبي إسحاق ، وأبو حيوة : تشابهت ، بتشديد الشين. وقال أبو عمرو الداني : وذلك غير جائز ، لأنه فعل ماض ، يعني أن اجتماع التاءين المزيدتين لا يكون في الماضي ، إنما يكون في المضارع نحو : تتشابه ، وحينئذ يجوز فيه الإدغام. أما الماضي فليس أصله تتشابه. وقد مر نظير هذه القراءة في قوله : (إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا) (٣) ، وخرجنا ذلك على تأويل لا يمكن هنا ، فيتطلب هنا تأويل لهذه القراءة.
__________________
(١) سورة البقرة : ٢ / ٢١.
(٢) سورة الذاريات : ٥١ / ٥٣.
(٣) سورة البقرة : ٢ / ٧٠.